الندوة (72) -العزّة إفاضة حسينية -الأستاذة زهراء البقشي
بداية تلت المحاضرة قوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} (فاطر: 10) مستشهدة بقول الإمام الحسين عليه السلام: "ألَا وإنّ الدَعِيَّ ابنَ الدَعِيِّ قدْ رَكَزَ بينَ اثنَتَين بينَ السِّلَّةِ والذِّلَّةِ، وهيهاتَ منّا الذِّلَّةُ" موضّحة أنّ الإمام الحسين(عليه السلام) كان يريد العزّة حينما رفض خيار الذلّة ؛لأنّ العزة والذلّة متناقضان.
ومما يلفت النظر أنّ المفردة التي استخدمها الإمام الحسين عليه السلام في مقابل الذلّة لم تكن العزّة, رغم أنّه أراد العزّة لكنّه (عليه السلام) لم يصرّح بهذه المفردة, وفي الخيار الأول عبّر عن الواقع بالواقع وعن القتل بالقتل بقوله (السلّة) والسلّة يعني السيف, بينما في الخيار الثاني ذكر النتيجة النهائية, فالذلّة هي آخر مراتب السقوط ، وهي قاع الهوان. ولم يذكر في مقابل القتل مفردة تعادل القتل ، ولم يقل إنّ الدعي قد ركز بين الشهادة والذلّة أو بين الجهاد والذلّة, وإنّما ذكر نتيجة نهائية مقابل القتل, فهل كان الإمام الحسين عليه السلام يريد أن يقول للمجتمع إنّ القتل في سبيل الله هو عزّة تقابل مفهوم الذلّة بأكمله؟ وإلى ماذا كان يرمي الإمام الحسين(عليه السلام)؟ وإلى أين كان يقود مجتمعه؟
كان(عليه السلام) في الحقيقة يقود مجتمعه نحو العزّة{مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} وقال هيهات منّا الذلّة, استخدام الإمام الحسين(عليه السلام) لضمير الجماعة (منّا) يدلّ على أنّه(عليه السلام) لم يطلب العزّة لنفسه بل العزّة التي أرادها الإمام هي العزّة الإلَهية غير المتناهية.
العزة بماهيتها وبكلّ معانيها وأركانها هي لله سبحانه لا غير، وبقوله (هيهات منا الذلة) طبّق الآية الكريمة التي توضّح أنّه لا يمكن أن تكون هناك عزّة يطلبها الشخص لنفسه, فالإمام الحسين عليه السلام لم يطلب العزّة لنفسه بل أرادها لله وفي الله ، {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} وهذه العزّة حينما تراد لله تعالى فإنّ إفاضتها تكون بمقدار هذه الإرادة ، والإمام الحسين(عليه السلام) أرادها للأمّة بهذا المقدار المتسع والمترامي, بقوله: (إِنَّما خَرَجْتُ لِطَلَبِ الإصْلاحِ في أُمَّةِ جَدّي، أُريدُ أَنْ آمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَأَنْهى عَنِ الْمُنْكَرِ).
من هو الإمام الحسين عليه السلام؟ حسب التعبير الذي جاء في الزيارة الجامعة: وجود لا متناهي من العزّة والشموخ والعظمة والسؤدد والشرف والرفعة والسمو, وهو من الذين هم (مَحالِّ مَعْرِفَةِ اللهِ، وَمَساكِنِ بَرَكَةِ اللهِ، وَمَعادِنِ حِكْمَةِ اللهِ، وَحَفَظَةِ سِرِّ اللهِ، وَحَمَلَةِ كِتابِ اللهِ...، وَالْمُسْتَقِرّينَ فى اَمْرِ اللهِ، وَالتّامّينَ فى مَحَبَّةِ اللهِ) إلى أن يقول:(وَاَعَزَّكُمْ بِهُداهُ) وقوله: (أعزّكم) فعل ماضي تمّ حدوثه, بمعنى أنّ العزّة حصلت للإمام الحسين(عليه السلام) سابقاً, وأنّه وجود نوراني قد تمّت له العزّة قبل الخلق , فهل كان(عليه السلام) يحتاج إلى أن يُقتل في سبيل الله ليحصل على العزّة؟
الإمام الحسين(عليه السلام) كان ممن:(عَصَمَكُمُ اللهُ مِنَ الزَّلَلِ، وَآمَنَكُمْ مِنَ الْفِتَنِ، وَطَهَّرَكُمْ مِنَ الدَّنَسِ، وَاَذْهَبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ وَطَهَّرَكُمْ تَطْهيراً، فَعَظَّمْتُمْ جَلالَهُ، وَاَكْبَرْتُمْ شَأْنَهُ، وَمَجَّدْتُمْ كَرَمَهُ، وَاَدَمْتُمْ ذِكْرَهُ ... ) هذه هي طبيعة العلاقة بين الإمام الحسين(عليه السلام) وبين الله سبحانه وتعالى, نعم لا نريد أن نقلّل من شأن الشهادة أبداً, لكن الإنسان العادي يحتاج أن يقدّم الروح والنّفس وينال الشهادة حتّى يدخل مع الله تعالى في حالة الوصال, أمّا بالنسبة للإمام الحسين(عليه السلام) الشهادة وتقديم النفس هي جزء من الوصال والعزة, فالإمام الحسين(عليه السلام) حينما يطلب ويرفض الذل ويطرح خيار السلة الذي هو يعد في مقام العزة لا يطلب ذلك لنفسه وإنما يطلبه لمجتمعه وللأمة الإسلامية بل للإنسانية جمعاء, ويعبر عن ذلك بتعابير تعني الخلود لطلب الإصلاح.
قال الإمام الحسين(عليه السلام) :"لطلب الإصلاح" الطلب في اللغة العربية أكثر من الرغبة أو الإرادة, يعني إرادة إيجاد الشيء وتكوينه وتثبيته, وخرج الإمام لأجل أن يؤسّس ويُوجد الإصلاح في أمّة جده.
وقوله "في أمّة جدّي" فكلمة (في) تعني الظرفية بمعنى أن تحتوي الأمّة على الإصلاح وتكون ركناً من أركانه, والإمام الحسين(عليه السلام) يريد أن يوجد ويخلق هذه الروح في هذه الأمة ؛لأنّه(عليه السلام) لاحظ أنّ الأمّة بعد مضي خمسين عاماً وصلت إلى هذه المرحلة من التراجع, هذه الأمّة التي بعد ثلاثين عاماً من رحيل الرّسول الأكرم أدى بها السقوط والتردّي والتراجع إلى وقوع حادثة اغتيال أعظم شخصية تاريخية بعد رسول الله| وهو الإمام علي عليه السلام ، فكيف يكون حال الأمّة إذا مضى مائة أو ألف عام أو أكثر؟!
نعم, التحق الكثير بركب الإمام علي(عليه السلام) لكن القليل منهم من قام بوظيفته, مما أدى إلى تدهور الدولة الإسلامية وسقوطها بيد معاوية وأدى إلى اغتيال الشخصية الثانية في الأمة الإسلامية تعدّ الركن الأول في أمة محمد| حتى قال الإمام الحسين(عليه السلام): (على الإسلام السلام إذا بليت الأمّة براعٍ مثل يزيد) ونحن نعلم أنّ الإمام الحسين(عليه السلام) لا يستخدم الألفاظ بصيغة مبالغة أو تهويل, بل كان الواقع كذلك فكان هناك تهديد جدّي للأمة الإسلامية, وخطط للقضاء التام على الإسلام.
لماذا وصل الأمر إلى هذه الدرجة؟! لأنّ هناك من لم يقم بوظائفه, لذلك قام الإمام الحسين(عليه السلام) ليؤسّس الإصلاح ويحافظ على الأمّة ويبني ركناً ثابتاً فيها يبقى إلى قيام يوم الدين ، وكلّفت القاعدة الإصلاحية الإمام(عليه السلام) ثمناً باهظاً وكان يعلم بذلك لكنّه طلبها حيث قال:(أريد آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر) إنّ هذا التراجع الذي حدث في الأمّة وهذا التردّي والسقوط وهي قريبة العهد برسول الله| لم يكن إلّا لأنّ البعض لم يقم بمسؤوليته, لم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر, حتّى البعض من أصحاب النفوذ والقدرة.
أعاد الإمام الحسين عليه السلام الأمّة التي كانت على شفير السقوط في قاع الذلّ إلى مركز العزّة وذلك عبر حركته التي وضّحت وأسّست هذه القاعدة الإصلاحية عبر ثلاث محاور: قيمة الإنسان, الحياة, والحرّية.
تعبير الإمام الحسين(عليه السلام) عن السلّة في مقابل الذلّة هو في الحقيقة بيان للقيمة الحقيقية والواقعية للنفس البشرية التي تشير إليها الآية الكريمة: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} , فلا يمكن أن تحظى بمشتري كالله سبحانه وتعالى إن لم تكن قيمتك هي الأعلى والأكثر خصوصية ، إذا تأمّل الإنسان كيف كسبت هذه النفس قيمة عظيمة؟ هذه النفس التي يبيّنها الوحي: {قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا} (الأعراف: 188){ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا }(الفرقان: 3 ) ما الذي جعل هذه النفس هذه القيمة حتى يدخل الله سبحانه وتعالى معها في صفقة؟ {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ} فأيّ قيمة لقت هذه النفس حتّى لم يكن أي مشتري بإمكانه أن يقدم على شرائها سوى الله سبحانه وتعالى.
النفس في حقيقتها لها قيمتان: القيمة الذاتية الأولية, التي تذكرها الآية: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} فلا يجوز قتل أي إنسان أو التعدي على ماله أو عرضه أو حُرماته أياً كان, وقيمة الإنسان الذاتية ضئيلة جداً وفردية أمام القيمة الأخرى وهي القيمة الخارجية الاكتسابية وهو أن يكون الله مشترٍ لها ويدخل معها في معاملة.
نهض الإمام بثورته وهو يقول: (آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر), حينما يجد الإنسان أنّ كلّ ألم وحاجة ومشكلة في هذا المجتمع هي ألمه وحاجته ومشكلته ، فحينما يجد مشكلة في مجتمعه فيسعى للإصلاح والتقويم والتعديل, ويبتعد عن نفسه ؛لأنّه يحاول أن يساعد هذا ويحلّ مشكلة ذاك, ويقوّم خطأً وزللاً هناك, وهكذا يرى نفسه وهو يتسع ويكبر ويتضاعف ثمّ تلاحظ أنّك بدأت تكتسب مفردات العزّة ، حينما يبدأ الإنسان بالابتعاد عن نفسه بطبيعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هذه المقولة التي قوقعناها في الدين في قوقعة صغيرة وجعلناها مفردة دينية, وتركناها محصورة في الصلاة والصيام بينما هي جارية في كلّ قانون وفي كل ركن من أركان الحياة الاجتماعية. حينما يتسع الإنسان ويتحول من فرد إلى مجموعة, وهذه المجموعة أيضاً تكبر وتتسع وتتحوّل إلى مجتمع, سوف يحصل الإنسان على هذه القيمة, وينال القيمة الأعلى, لماذا؟ لأنّه أصبح أكبر وأعلى وأكثر, وهنالك يستطيع أو يستحق أن يدخل في معاملة مع الله سبحانه وتعالى.
الإمام الحسين(عليه السلام) حينما اختار مفردة السّلِّة أو القتل كان يطرح آخر خيار لهذا الترامي ولهذه السعة ولهذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, يقول: " لِطَلَبِ الإصْلاحِ في أُمَّةِ جَدّي، أُريدُ أَنْ آمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَأَنْهى عَنِ الْمُنْكَرِ" ثمّ يطرح القتل كآخر خيار لإقامة هذا الإصلاح.
ثمّ ذكرت الباحثة أنّ البحث يقع في ثلاثة محاور:
المحور الأوّل- القيمة الإنسانية التي تستحق أن تدخل مع الله في صفقة للمعاملة:
إنّ الله تعالى اشترى من المؤمنين أنفسهم مقابل الجنّة كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ}, ولم يكتف الإمام الحسين عليه السلام للصفقة بنفسه فحسب وإن كانت كافية بل دخل (عليه السلام) مع الله تعالى في معاملةٍ أكبر من نفسه, حيث دخل(عليه السلام) مع الله تعالى في معاملةٍ بالنفس وما بعد النفس, بجميع الأنفس, بالشيب والشباب والرضع, دخل في معاملةٍ كلّفته سبي نسائه وخوف عياله, لأنّه أراد العزّة اللامتناهية لهذه الأمّة فأعطى عطاءً لا متناهياً.
بيّن الإمام الحسين(عليه السلام) لهذه الأمّة ولكلّ إنسان كيف يحصل على قيمته الحقيقية الواقعية ويبتعد عن قيمته الفردية وذلك حينما يذوب في مجتمعه ، فكان عليه السلام قائداً بمعنى الكلمة, تحدّث بلغة الأب والولي والراعي الذي لا ينفك عن مجتمعه ، ولم يهادن حيث قال كلمته الخالدة: (هيهات منا الذلّة), لأنّه كان ذائباً حقّاً في المسؤولية ويريد العزّة- التي كلّها لله تعالى- لمجتمعه.
وفي المقابل نجد أنّ البعض في هذه الأمّة وخاصّة حينما يتقوقع على نفسه فيدخل في صفقة خاسرة كما تعبّر عنها الآية الكريمة {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا}, من أنت أيها الإنسان حتى تدخل مع نفسك في صفقة؟! ماذا تملك حتّى تبيع؟ وماذا تملك حتّى تشتري؟ الآية تعبّر بأنّ الإنسان يقوم بذلك بغياً, ويقوم بذلك بعد العلم!! عجباً!! حينما يكون الإنسان على علم ولكنّه يبقى متقوقعاً حول نفسه ولا يقوم بوظائفه سوف يصبح من {أُولَٰئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ} (هود: 21) فالإنسان لا يملك في الحقيقة إلّا هذه النفس كمعاملة بل هو أفقر {قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا} (الأعراف: 188){ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا }(الفرقان: 3 ), فبيّن الإمام الحسين(عليه السلام) للإنسانية جمعاء كيف يكون للإنسان قيمة إن ابتعد عن نفسه.
المحور الثاني- الحياة الطيّبة القابلة للتوريث:
إن الميراث الحسيني بما فيه هذه العزة اللامتناهية حينما تريد أن تنتقل إلى جيلٍ آخر يجب أن تخضع لقانون الإرث, ما هو قانون الإرث؟ قانون الإرث يقول بأنّ الإرث لا ينتقل إلّا إلى الحيّ, فحتى تنتقل إليك هذه العزّة وحتّى تستطيع أن تحصل على هذه العزّة يجب أن تكون حيّاً, وإلا فلا إرث للميت. لكن أي حياةٍ يا ترى؟ الحسين(عليه السلام) يعبّر في مقام الواقع عن هذه الحياة بالسلة والقتل, لكنه في الحقيقة يعني الحياة. لماذا؟ لأنه حينما يقوم الإنسان بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعني أنّه حيّ.
مضيفة أنّ العزة الحسينية لا تنتقل إلى الإنسان الحي بمعنى الحياة الأولى التي يشاركه بها النبات والحيوان بل إلى الإنسان الذي يحيى بالحياة التي تعبّر عنها الآية الكريمة: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} , الحياة في هذه الآية - حسب ما يذكرها المفسرون - حياة أخرى غير ما يشارك الإنسان من باقي الموجودات, هذه الحياة هي الحياة الناشئة عن وعي وإدراك, والشعور بالمسؤولية والقيام بالوظيفة فيكون مصداقاً لـ {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا} ويستحقّ الحياة الطيّبة, هذا على مستوى الفرد, فكيف بمن أراد أن يصلح؟وكيف بمن أراد أن يقوّم خطأ؟ أيّ حياة سيحصل عليها وأيّ حياة أخرى سيستحقها؟ هذه الحياة التي سيكون بها الإنسان قادراً على أن يرث الحسين(عليه السلام) ويرث مفاهيم ثورته بما فيها العزة, حينما يصل الإنسان الواعي إلى أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد يكلّفه حياته بل وأكثر من حياته, ولا يهمّه ذلك ويكون هذا الإنسان حيّاً بوجوده وفكره وعمله. هذه النوعية من الحياة بإمكانها أن ترث العزّة من الإمام الحسين بکلّ ما لها من سمو ورفعة.
المحور الثالث-الحرية الحقيقة التي لا تتحقّق إلا بالانقياد التام لله تعالى:
حينما يكون الإنسان خاضعاً لقوةٍ خارجية تجبره على ما تريد ويكون خاضعاً للقيام بما لا يتناسب وشأنه ولا يستطيع العمل بما لا يعتقد ولا يرضى فإنّه يكون ذليلاً ولا يمتلك الحرية, لأنّ الحرية تعني أن تكون لك القدرة على أن تعمل الصواب, وأما الخطأ أياً كانت قوته, سواء كانت قوة خارجية أو قوة داخلية كالأهواء والرغبات فإنه نوع من الذل. هذه القوى عندما تفرض عليك أن تقوم بما ليس من شأنك أن تقوم به كإنسان فإنها نوع من الذل ونوع من العبودية, وهذا ما رفضه الإمام الحسين(عليه السلام).
قال الإمام الحسين (عليه السلام): (هيهات منا الذلة) وبإصداره لهذه المقولة فكّ جميع الأغلال وجميع القيود عن النفس الإنسانية ؛لأنّ الإنسان حينما يكون تحت إرادة الله سبحانه وتعالى فقط, وحينما يريد تحقيق إرادة الله سبحانه بحيث لا يجد لنفسه أي وجود أو إرادة أو رغبة وإنّما هدفه تحقيق إرادة الله سبحانه فحسب, بعبارة أخرى حينما يريد ما أراده الله سبحانه وتعالى ويرى الصواب الذي يأمر به الله, وأن لا يحدث في الكون ما يسخط الله, سوف يقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وسوف يستميت في إقامة مجتمعٍ قائمٍ على الرقابة الذاتية والنقد الذاتي والمسؤولية الاجتماعية, وهذا ما قام به الحسين(عليه السلام), أمر بالمعروف ونهى عن المنكر وأبعد الذل والهوان عن نفسه وعن الأمة ولم يبق أمامه إلا القتل, فالحسين(عليه السلام) أراد أن يبين للجميع أنّ هذا هو الواقع الذي أعيشه ويجب أن نعيشه. حينما يصل الإنسان إلى هذه المرتبة بأنه لا يجب أن يتحقق إلا ما يريده الله تعالى فإنه في الحقيقة وصل إلى كامل الحرية, وإلى كامل الانطلاق والتحرّر, هذه الحرية التي تعني بالتالي القدرة على الحركة والقدرة على التطور والإنجاز.
كما استشهدت بمقاطع من زيارة الإمام الحسين عليه السلام في يوم عاشوراء:"يا أبا عبد الله إنّي أتقرّب إلى الله وإلى رسوله وإلى أمير المؤمنين وإلى فاطمة وإلى الحسن وإليك" أصبح لديّ القدرة على التقرب منك, الإنسان حينما يكون مكبلاً ومقيداً فإنه لا يستطيع أن يتحرك ولكن حينما ينطلق ويتحرر يكون بإمكانه أن يتقرب ويتحرك ويمضي تجاه هذه الوجودات المطلقة وهذه الأنوار المقدسة.
وقد تصل الحرّية بالإنسان حدّاً لا يقيّده حتّى الموت ويتحرّر من دنياه ورغبته في الحياة بكامل الحرية كما نجدها ساطعة في دعاء العهد :" اللّهُمَّ إِنْ حالَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ المَوْتُ الَّذِي جَعَلْتَهُ عَلى عِبادِكَ حَتْما مَقْضِيّاً فَأخْرِجْنِي مِنْ قَبْرِي مُؤْتَزِراً كَفَنِي شاهِراً سَيْفِي مُجَرِّداً قَناتِي" هذا التحرّر الذي مُنح للإنسان جعله إلى درجة حتّى الموت ليس عائقاً أمامه, هذا الموت الذي يجده أغلب البشرية الساحقة أكبر عائق وأكبر سد ومانع أمام تحقيق الأهداف والرغبات لكن بعد إن وصل الإنسان إلى هذه الحرية وهذه السعة وهذا الانعتاق يكون لسانه: (فأخرجني من قبري) بكامل الجهوزية والاستعداد.
قام الإمام الحسين عليه السلام بخطة عمل وسير لإيضاح المسير للإنسانية وثبت هذه الحركة العملية بمفردات وأقوالٍ موجزة لكنها حملت هذه المعاني التي حفظت العزة عبر قيامه ببيان القيمة الحقيقية للإنسان وكيف تحصل الحياة لترث العزة حتى تصل به إلى درجة أن يطلب: (اللهم اجعل محياي محيا محمد وآل محمد ومماتي ممات محمد وآل محمد).
مبيّنة أنّ قول الإمام الحسين عليه السلام إن الدعي ابن الدعي قد خيرني بين اثنتين, لا يقصد منه طرح خيار الذلة للإمة الإسلامية فإنّ شأنها أن تعيش العزّة فقط ، وهي فوق ما يترصد لها الأعداء من السقوط وفوق ما يريده الشيطان من هوان وذلة ، وهذ ما بينه الحسين(عليه السلام) وقد اتضح الان ما كان يريده الحسين(عليه السلام), هذه الانتصارات الاسطورية التي حققها المسلمون وخاصة الشيعة رغم مر التاريخ ورغم هذه الألاف وما يزيد من سنوات وما نجده اليوم في هذه الساحة رغم كل هذه التحديات وهذا الاستهداف والوحشية وهذا التعتيم والتكالب لكن تبقى العزة التي أرادها الحسين(عليه السلام) بهذا الشموخ, وكلما ضاقت الأرض من جهة اتسعت بهذه العزة، والإمام الحسين عليه السلام أفنى هذه الروح من أجل اصلاح الامة وأعادتها على مرّ التاريخ حتى قيام يوم الدين من شفير الذل إلى مركز العزة وجعل هذه العزة خالدة بخلوده.
فسلام عليك يا مولاي يا أبا عبدالله يوم قمت ويوم بذلت روحك لأجل عزة الإسلام وأهله.