الحمد لله الذي أكرمنا بسيّد أنبيائه وأشرف
أصفيائه محمد، والنجباء من عترته وأوصيائه، حجج الله
في أرضه وسمائه، صلوات الله عليه وعليهم ما استنارت
بحبّهم قلوب أحبّائه، وانشرحت بولائهم صدور أوليائه.
وبعد، هذا هو الجزء الثاني من كتابي (مُعين الخطباء).
يا
قتيلاً أصبحتْ دارُ العُلى بعده
قفرًى وربعُ الجُود مَحْلا |
هذا لسان حال العقيلة زينب‘ مع جدّها الرسول’. أمّا لسان حال الموالين مع بعضهم البعض في مثل هذه الليلة كمايصفه الشاعر:
(بحراني)
إلبس اثياب السود واهمل دمعة العين
هلّ الـهلال البيه راح ابكربله احسين
هلّ الهلال وبيه مرتسمه الحمره
من دم أبو السّجاد يوم اگطعوا نحره
اگصـد الماتم بالبكى اوساعد الزهـره
اوكثّر يهل ترجه الشفاعة اهناك الونين
هل يوم يحضـر ماتم المظلـوم جـدّه
يسمع الناعي لونعه اويبچي الفگده
ويصيـح آيبـني البگـه معـفـور خـدّه
فوك التراب وچبدته امن العطش نصّين
يحسين ما تبرد الجمـره ابصـبّ الدمـوع
ليل اونهار أنحب اوگلبي اعليك موجوع
يحسين خيل الرضرضت صدرك والضلوع
رضّت اضـلوعي ريـت دونك بالميـادين
***
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾[2].
عرّف العلماء التوبة بأنّها: الرجوع من الذنب القولي والفعلي، أو هي ترك المعاصي في الحال، والعزم على تركها مستقبلاً، وتدارك ما سبق من التقصير. وهي ضدّ الإصرار[3].
وتورُّط الإنسان في معصية الله تبارك وتعالى نوع من أنواع الضعف؛ لأنَّ الذنب دليل الضعف والقصور، فمثلاً شخصان يعيشان في جوٍّ واحدٍ، وهما أخوان من أب وأُمّ، ويعيشان في بيتٍ واحدٍ، ولكنّ أحدهما يعاني من الضعف فيتورّط في المعصية؛ لأنَّ إيمانه ضعيف، والآخر عنده مناعة تجاه المعصية وإيمانه قويّ فلا يتورّط فيها.
ومَن يُذنب فإنّ له أحد موقفين: موقف الإصرار وتكرار الذنب، وموقف آخر هو موقف العودة والتوبة. قد يذنب الإنسان يوماً، ولكنّه يعود وينتزع نفسه من مخالب المعصية.
ومن هنا كان على الإنسان اتّخاذ الموقف الثاني، وهو موقف العودة والتوبة والندم والاستغفار، وهكذا يصنع كُلّما أذنب، حتّى لو تكررت منه المعصية، عليه أن يعود ويستغفر، ويسأل الله تبارك وتعالى العون والمساعدة على اجتناب المعاصي.
روي أنَّه قال رجل للنبي’: يا رسول الله إنّي أذنبت، فقال: «استغفرِ الله. فقال: إنّي أتوب ثُمَّ أعود. فقال: كُلّما أذنبت استغفر الله. فقال: إذن، تكثر ذنوبي، فقال: عفو الله أكثر، فلا تزال تتوب حتّى يكون الشيطان هو المدحور»[4].
ولكن على الإنسان المؤمن أن لا يؤخّر التوبة؛ فإنّ تأخير التوبة اغترار كما روي عن صادق العترة الطاهرة^[5].
ثمّ لو تأمّلنا في الآية نجدها تأمر الذين آمنوا، حيث قالت: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا...﴾.
فهل هذا الأمر محمولٌ على وجوب التوبة، أم محمولٌ على استحبابها وندبها؟
الجواب: إنَّ التوبة واجبة بالإجماع بين المسلمين، وهي واجبة سواء كانت من الذنوب الكبيرة أم من الذنوب الصغيرة، بلا فرق في ذلك.
ويمكن الاستدلال على وجوبها بما يأتي:
أولاً: الدليل القرآني، وهو عبارة عن مجموعة من الآيات الشريفة،كقوله تعالى: ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾[6]، وقوله تبارك وتعالى: ﴿ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ﴾[7]، مضافاً إلى الآية التي صدّرنا بها المحاضرة.
ثانياً: الدليل الروائي، فقد روي عن إمامنا الرضا× أنَّه قال: «قال رسول الله’ اعترفوا بنعم الله، وتوبوا إلى الله من جميع ذنوبكم...»[8].
ثالثاً: الدليل العقلي، وهو ما ذُكر في عدّة كتب، منها: الباب الحادي عشر، حيث قال الشارح: «أو هي [التوبة] واجبة لوجوب الندم إجماعاً على كلّ قبيح وإخلال بواجب... لكونها دافعة للضرر، ودفع الضرر ـ وإن كان مظنوناً ـ واجب، فيندم على القبيح...»[9]. وعليه فالإجماع مع الأدلّة الشرعيّة والعقليّة قائمٌ على وجوب التوبة[10].
ثمّ الآية قالت: (نصوحاً)، فما معنى نصوح؟
وردت هذه الكلمة في التفاسير، وكانت مورد بحث واهتمام المفسّرين، والذي كادوا أن يتفقوا عليه هو أنَّ المراد من التوبة النصوح: التوبة بإخلاص.
وأمّا كيف أنَّ الإنسان يحصل على التوبة النصوح؟ أي كيف يُحقّق هذا الأمر وهو التوبة النصوح؟ فهذا هو المهم وهذا هو المطلوب.
ولعلَّ ذلك يتحقق بما ورد عن أمير المؤمنين× في نهج البلاغة أنَّ قائلاً قال بحضرته×: استغفر الله، فقال له: «ثكلتك أُمُّك! أتدري ما الاستغفار؟ إنَّ الاستغفار درجة العليّين، وهو اسم واقع على ستة معانٍ، أولها: الندم على ما مضى. الثاني: العزم على ترك العود إليه أبداً. والثالث: أن تؤدّي إلى المخلوقين حقوقهم حتّى تلقى الله سبحانه أملس ليس عليك تبعة. الرابع: أن تعمد إلى كلّ فريضة عليك ضيّعتها فتؤدّي حقّها. والخامس: أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت، فتذيبه بالأحزان حتّى تلصق الجلد بالعظم وينشأ بينها لحم جديد. والسادس: أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية؛ فعند ذلك تقول استغفر الله»[11].
فيتّضح من خلال هذا الحديث الشريف الوارد عن أمير المؤمنين× شروط التوبة النصوح، فإذا حقَّقها الإنسان بإخلاص، فقد أدّى وامتثل الأمر بوجوب التوبة النصوح وعُدَّ تائباً نصوحاً، وإلّا فلا. ويمكن تفصيل الشروط المتقدِّمة كالتالي:
أولها: الندم على ما مضى، كما عبّر الإمام زين العابدين× في مناجاته: «إلهي إن كان الندم على الذنب توبة، فإنّي وعزتك من النادمين»[12].
ثانيها: العزم على ترك العود إليه أبداً، بأن يتعهّد أن لا يعود إلى ما ارتكبه سابقاً.
وثالثها: أن يؤدّي إلى المخلوقين حقوقَهم بأن لا يترك حقّاً من حقوق الناس عليه، سواء كانت ماليّة أم غيرها من غيبة أو غير ذلك حتى يأتي يوم القيامة أملس ليس عليه تبعة للآخرين.
ورابعها: أن يعمد إلى كلِّ فريضةٍ عليه ضيّعها فيؤدّي حقّها، من صلاة أو صوم أو حجّ، إلى غير ذلك ممّا في ذمته.
وخامسها: أن يعمد إلى اللّحم الذي نبت على السحت فيُذيبه بالأحزان، بأن يسهر ليله ويظمأ في نهاره إلى أن يذيب ذلك اللحم الذي نشأ على لقمة الحرام.
وسادسها: أن يُذيق الجسم ألم الطاعة كما أذاقه حلاوة المعصية. فالإنسان المذنب كما استأنس بالمعصية وحلاوتها سابقاً يأتي الآن ليذيق الجسم والروح آلام الطاعات، بأن يُتعب نفسه في العبادات والطاعات والصبر عليها.
فإذا تمّت هذه الشروط الستُّ عندئذ يتمكّن الإنسان أن يقول: أستغفر الله، ويكون قد حقّق التوبة التي أرادها الله تبارك وتعالى.
فإذا حقَّق الإنسان ذلك سوف تترتّب ثمرات ونتائج مهمّة، أشارت الآية المباركة إلى بعضها، وتركت البعض الآخر لتشير إليه آياتٍ أُخر، بالإضافة إلى الأحاديث الواردة عن المعصومين^.
وأما الثمرات المترتّبة على التوبة النصوح في هذه الآية، فهي:
الأُولى: تكفير السيئات؛ إذ قالت الآية: ﴿عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ...﴾.
الثانية: دخول الجنات، حيث صرّحت الآية: ﴿سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾.
وهناك ثمرات ونتائج أُخرى قد تناولتها بعض الآيات الكريمة والروايات الشريفة.
منها: تبديل السيئات بالحسنات، أشارت إليه الآية المباركة: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ﴾[13].
ومنها: حبُّ الله لهم؛ إذ قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ﴾[14].
ومنها: نزول الرحمة على التائب، وقد أشار إلى ذلك الإمام أمير المؤمنين× بقوله: «التوبة تستنزل الرحمة»[15].
ومنها: طهارة القلب، فعن الإمام أمير المؤمنين×: «التوبة تطهّر القلوب، وتغسل الذنوب»[16]. إلى غير ذلك من الثمرات والنتائج الدنيوية والاُخروية.
ولا فرق حينئذٍ بين أن يتوب الإنسان قبل سنة من موته، وبين توبته حينما تظهر علامات الموت؛ لِمَا ورد عن النبيّ الأكرم’ أنّه قال: «مَن تاب إلى الله قبل موته بسنة تاب الله عليه، ثُمَّ قال: ألا وسنة كثير، مَن تاب إلى الله قبل موته بشهر تاب الله عليه، وقال: شهر كثير، مَن تاب إلى الله قبل موته بجمعة تاب الله عليه، قال: وجمعة كثير، مَن تاب إلى الله قبل موته بيوم تاب الله عليه، قال: ويوم كثير، مَن تاب إلى الله قبل موته بساعة تاب الله عليه، ثُمَّ قال: وساعة كثير، مَن تاب إلى الله قبل أن يغرغر بالموت تاب الله عليه»[17].
المهم أنَّ الإنسان يخلص في توبته إلى الله تبارك وتعالى، ويخرج من الدنيا وهو نادم على ما عمله من أعمال لم تُرضِ الله تبارك وتعالى.
ومصداق التائب توبةً نصوحاً، النادم قبل أن تغرغر روحه بالموت، الحرّ بن يزيد الرياحي يوم جعجع بالحسين× في ألف فارسٍ ليحبسه عن الرجوع، حينها استقبلهم الإمام الحسين×، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: «إنّها معذرة إلى الله} وإليّكم، وإنّي لم آتكم حتّى أتتني كتبكم وقدمِت بها عليَّ رسُلُكم: أن أقدم علينا فإنَّ ليس لنا إمام، ولعلَّ الله يجمعنا بك على الهدى. فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم، فأعطوني ما أطمئنّ به من عهودكم ومواثيقكم».
فقال الحرّ: ما أدري ما هذه الكتب التي تذكرها؟ فأمر الحسينُ عقبة بن سمعان، فأخرج خرجين مملوءين كتُباً، وهي كُتب أهل الكوفة تشكو للحسين ظلم يزيد، ويدعونه للقدوم عليهم ليكون إمامهم.
ولم يقتنع الحرّ بكلِّ هذا الكلام، وصمّم على قطع المسير على أبي عبد الله×، إلى أن وصل يوم عاشوراء، ورأى القوم مُصرّين على قتال الحسين×، حينئذٍ قال لعمر بن سعد: أمقاتل أنت هذا الرجل؟ قال: إي والله، قِتالاً أيسره أن تسقط الرؤوس، وتطيح الأيدي. فأخذ الحُرّ يقول: إنّي أُخَيِّر نفسي بين الجنّة والنار، فو الله، لا أختار على الجنّة شيئاً، ولو قُطّعت وحُرّقت، ثُمَّ ضرب فرسه، فلحق بالحسين، وجاز على عسكر ابن سعد واضعاً يده على رأسه، وهو يقول: اللَّهُمَ إليك أنبتُ فتب عليَّ، فقد أرعبت قلوب أوليائك، وأولاد نبيّك، ثُمَّ قال للحسين×: جُعلت فداك أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع، وسايرتك في الطريق، وجعجعت بك في هذا المكان، وما ظننت أنّ القوم يردّون عليك ما عرضته عليهم، وأنا تائب إلى الله ممّا صنعت، فهل ترى لي من توبة؟ فقال له الحسين×: «نعم يتوب الله عليك»[18].
وعندما رمى ابن سعد سهماً نحو مخيم الحسين× وصاح: اشهدوا ليَّ عند الأمير إنّي أول مَن رمى. فرمى أصحابه كلّهم، فلم يبقَ من أصحاب الحسين أحد إلّا أصابه سهمٌ من سهامهم، فقال الحسين× لأصحابه: «قوموا رحمكم الله إلى الموت الذي لا بدّ منه، فإنَّ هذه السهام رُسل القوم إليكم... فقال له الحرّ: يا بن رسول الله، كنت أوّل خارج عليك فأذن لي لأكون أوّل قتيل بين يديك، وأوّل مَن يصافح جدَّك غداً»[19].
فأذن له الحسين×، فتقدّم وهو يقول:
إنّي أنا الحرّ ومأوى الضيفِ أضرب
في أعناقكم بالسيفِ |
عن خيرِ مَن حلَّ بأرض الخيفِ
فقاتل قتالاً شديداً حتّى قتل أكثر من أربعين فارساً وراجلاً، وبعدما عُقِر فرسه، بقي يُقاتل راجلاً، فحملت عليه الرجّالة وتكاثروا عليه حتّى قتلوه، فاحتمله أصحابُ الحسين ووضعوه بين يديه، فجعل الحسين يمسح وجهه ويقول: «أنت الحرّ كما سمتك أُمّك، وأنت الحرّ في الدنيا والآخرة»[20].
هُوه او جاه او وگف يمّه المشـكّر وشافه
اعلى الثره مرمي امعفر |
لكن لو سألتني عن بُعد قبر الحرّ عن سائر الشهداء، لأجبتك: إنّ السبب في ذلك أنّ الحرّ لم يُقطع رأسُه كما قُطعت رؤوس أصحاب الحسين×، بل حملته عشيرته عندما أمر ابن سعد بفصل الرؤوس عن الأجساد، قامت بنو رياحٍ وقالت: والله، لا يُقطع رأسُ زعيمنا وأيدينا على قوائم سيوفنا، فقال ابن سعد: احملوا جسد شيخكم، فحملته عشيرته ودفنوه في هذا المكان.
هذا وزينب واقفة تنظر إلى الحرّ وقد حملته عشيرته، والحسين× مُلقى على وجه الأرض، وكأنّي بها تنادي: وا حسيناه، وا غريباه[21].
العشيره شالته ابحرّ الظهـيره الكلّ
منهم عليه شالته الغيره |
وبلا دفـن خلـوهم اجمـع
(أبوذية)
يحـادي لا تسج بالظعن بيـداي دليلي
الفگد أبو السجّاد بيداي |
***
ليس الغريب غريب الأهل والوطـن بل
الغريبُ غريب الغسلِ والكفنِ |
المحاضرة الثانية: التقوى
لستُ أنساهُ مُفرداً بين جمعٍ |
|
تصيح بصوتها يحسين وينك جاوبني وصِـد ليَّ ابعينك |
*** |
|
|
ناداها ابضعيف الصوت يختي مهو حچيچ كسـر گلبي اسكتي |
*** |
|
|
يخويه يابس امن العطش چبـدي يخويه والشمس حرِّگت خدّي يخويه والترابه احرگت زندي دفييلي بطرف ثوبچ عن الحَـرّ |
*** |
|
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾[23].
التقوى معناها: أن لا يراك الله حيث نهاك، ولا يفقدك حيث أمرك[24]. أو بمعنى آخر: هي الخشية والخوف من الله}، فهي أيضاً اتّقاء ما يجرُّ الإنسان إلى النار من خلال امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه، والتخلّي عن كلّ رذيلةٍ، والتحلّي بكلّ فضيلةٍ.
ومن هنا جعل النبيّ الأكرم’ الكفَّ عن المحارم ثمرة الدين، وذلك عندما قال’: «جاءني حبيبي جبرئيل، وقال: يا أحمد، إنّ مثلَ هذا الدين كمثل شجرةٍ ثابتة، الإيمان أصلها، والصلاة عروقها، والزكاة ماؤها، والصوم سعفها، وحسن الخلق ورقها، والكفّ عن المحارم ثمرها، فلا تكمل الشجرة إلّا بالثمر، كذلك الإيمان لا يكمل إلّا بالكفّ عن المحارم»[25].
وروي أنَّ رجُلاً استوصى رسولَ الله’، فقال’: «... وقد أجمع الله ما يتواصى به المتواصون من الأوّلين والآخرين في خصلةٍ واحدةٍ وهي التقوى، قال الله: ﴿ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾، وفيه جماع كلّ عبادةٍ صالحةٍ، وبه وَصَلَ من وَصَلَ إلى الدرجات العلى، والرتبة القصوى، وبه عاش مَن عاش بالحياة الطيبة والأُنس الدائم، قال الله: ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ﴾ [26].
ثُمَّ إنّ المراد بالآية أنَّ الأمر بتقوى الله شريعة عامّة لجميع الأُمم لم يلحقها نسخ ولا تبديل، بل هو وصية الله في الأولين والآخرين[27].
فالوصية بتقوى الله أمر ضروري بحيث أكّدت الآية أنّ اليهود والنصارى وكلّ مَن كان له كتاب سماوي قبل المسلمين قد طُلب منهم جميعاً ـ كما طُلب مِنكم أيها المسلمون ـ مراعاة التقوى.
فهذه الآية على غرار بعض الآيات الأُخرى التي تُشير إلى ثبوت بعض الأحكام في الشرائع السابقة،كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[28].
وللتقوى درجات متعدّدة تختلف باختلاف قوّة الإنسان وضعفه، فنجد البعض من الناس له من التقوى ما يُؤدّي به إلى الاجتناب عن كلّ ما يلزم منه ويؤدّي بصاحبه إلى الفساد، وتجد البعض منهم يجتنب عن كُلِّ شبهة؛ لاحتمال وجود الفساد فيها.
والبعض الآخر يترك ما لا بأس به مخافة ما به بأس.
وتجد البعض منهم يملك من مراتب التقوى الدرجات العليا، فيجتنب عن كلّ ما ليس لله تبارك وتعالى.
والله سبحانه وتعالى يُعطي من الأجر على قدر مرتبة التقوى عند الإنسان، فالتقوى التي يمتلكها بعض العلماء كالشيخ مرتضى الأنصاري& ـ صاحب المصنّفات الدقيقة التي ربّت مئات العلماء، بل عشرات المئات ـ هي من النوع العالي، بل العالي جدّاً.
في أحد الأيام جاءه رجلٌ وقال له: شيخنا، لقد رأيت البارحة في المنام عجباً! قال له الشيخ: ما رأيت؟
قال الرجل: لقد رأيت الشيطان وعلى رأسه قلنسوة ملونة بألوانٍ مختلفة، ورأيتُ بيده حبالاً غليظةً، وحبالاً دقيقة، وسلاسل من حديد طويلة وقصيرة، ورأيت سلسلةً طويلة مقطّعة في سبع مواضع منها، فتقدّمت إليه، وقلت له: ما هذه الألوان التي تحملها معك؟ وما هذه الحبال والسلاسل التي بيدك؟
قال الشيطان: هذه هي مصائدي التي أصيد بها الناس، وأجرّهم بها إلى المهالك؛ فإنسان يأتيني باللون الأحمر، وآخر باللون الأخضر، وثالث باللون الأزرق، ورابع لا أتمكن أن أجرّه بالألوان، فأجرّه بالحبال الدقيقة، وآخرون بالحبال الغليظة، وآخرون من الزهاد والعُبّاد والعلماء بالسلاسل القصيرة والطويلة.
قال الرجل: فقلت له: فما هو اللون الذي تجلبني به؟ وأين الحبل الذي تسحبني بسببه؟
فقال الشيطان: إنّك وأمثالك لا تحتاجون إلى حبال، ولا إلى ألوان، وإنّما أجلبكم بإشارة خفيفةٍ.
فسأله الرجل قائلاً: وما هذه السلسة المقطّعة في مواضع متعددة منها؟
قال الشيطان: إنّها سلسلة الشيخ مرتضى، فإنّي قد جذبته ليلة البارحة سبع مرات بهذه السلسلة، وهي أغلظ سلاسلي وأطولها، وفي كلّ مرةٍ يقطع الشيخ السلسلة تقطيعاً، ويصرعني وينفلت من حبائلي، والآن أنا آيس منه، ومتحيّر ماذا أصنع معه؟!
فلمّا انتهى ذلك الرجل من نقل منامه إلى الشيخ، تبسّم الشيخ وقال: الحمدُ لله ربِّ العالمين. ثُمَّ قال الشيخُ: نعم، لقد كان من قصّتي البارحة: أنّ زوجتي أخذها الطلق وألم المخاض والولادة، ولم يكن عندنا في البيت شيء يُكتفى به لأجل هذا الأمر، ففكّرت ماذا أصنع في أمرها؟
فتذكّرت بأنّ هناك أمانة كانت لأحد الناس قد أودعها عندي، ويمكنني التصرّف فيها بالفحوى ـ فإنّه وإن لم يصرّح لي بالإذن في التصرّف فيها إذناً صريحاً، لكنّ ظاهر حاله أنّه يأذن لي إذناً فحوائياً بالتصرّف فيها ـ ثُمَّ إرجاعها بعد الوسع إلى مكانها، ومن جهة ثانية كنت مضطرّاً إلى الاستفادة منها.
وعلى ذلك عزمت على التصرّف في المال وقمت لأخذه حتّى أتصرّف فيه، لكنّي رجعت وقلتُ: لعلّ الله يُيَسِّرُ الولادة بدون حاجة إلى التصرّف في هذا المال، ثُمَّ بعد مدّة عاودتني الفكرة من جديد، فعزمت ثانية على التصرّف في المال، لكنّي رجعت أيضاً دون أن آخذ المال، وفي مرّة ثالثة عاودتني الفكرة وعزمت من جديد على أخذ المال والتصرّف فيه، لكنّي رجعت للمرّة الثالثة وانصرفت عن عزمي، وهكذا تردّدت إلى سبع مرات.
ثُمّ عزمت أخيراً على غضّ النظر عن المال والانصراف عن التصرّف فيه، حتّى إذا كان قريباً من الفجر سهّل الله سبحانه وتعالى على المرأة أمر الولادة، فولدت بسلامة وعافية من دون حاجة إلى أن آخذ من المال شيئاً.
فهذا نوع من أنواع التقوى، لكن من أعلى مراتبها وأنواعها، وهو ترك ما لا بأس به خوفاً من الانجرار إلى ما به البأس، ولذا ترى أنَّ الباري} رتّبَ نتائج على التقوى، منها:
أولاً: المخرج والرزق من دون احتساب، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ﴾[29].
ثانياً: إنَّ الله تبارك وتعالى يجعل للإنسان المتَّقي فُرقاناً؛ إذ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا ﴾[30]، والفرقان على ما جاء في كلام المفسّرين هو الشيء الذي يفصل بين الحقّ والباطل[31].
ثالثاً: العزّ والهيبة حسبما جاء في كلام مولى الموحّدين أميرِ المؤمنينَ × حيث قال: «مَن أراد عِزاً بلا عشيرة، وهيبةً بلا سُلطانِ، فليخرج من ذلِّ معصية الله إلى عزِّ طاعته»[32].
رابعاً: تعليم الله للمتّقين وإلهامه لهم، قال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ﴾[33].
خامساً: إتيان الله لصاحبها الرحمة والنور، قال تبارك وتعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ﴾[34].
والعلم في الآية المتقدّمة في المورد الرابع هو نفسه النور في هذه الآية. وأمّا الشرط فنفسه، وهو التقوى.
والناس المتّقون لا يختلف عندهم الحال سواء في السراء أم الضراء؛ لذا لمّا صار الظهر من يوم عاشوراء، ولم يبقَ من أصحاب الحسين× إلّا القليل وبقية أهل بيته، التفت إليه ذلك العبد الصالح (أبو ثمامة الصيداوي) المتقي المحبّ لله ولرسوله ولإمامه، اُنظر ماذا يريد في التفاتته هذه، قال: يا بن رسول الله، إنَّ العدو قد اقترب منك، وإنّك لا تُقتل حتّى نُقتل دونك، وأُحبُّ أن أصلي معك هذه الصلاة، وقد دنا وقتها، فرفع الحسين طرفه نحو السماء ونظر إلى الشمس وقد زالت، فقال×: ذكرت الصلاة جعلك الله من المصلّين الذاكرين. نعم، هذا أول وقتها، فاسألوهم أن يكفّوا عنا حتّى نصلي، فرفض العدو.
وصاح الشمر (لعنة الله عليه): يا حسينُ، إنّها لا تُقبلُ. فقال لـه حبيب: أزعمت لا تقبل صلاة ابن رسول الله، وتُقبل صلاتك؟! فوقف الحسين× يُصلّي صلاة الظهر بعد أن وقف رجلان من أصحابه أمامَه، مواجهين العدو؛ ليدرأوا السهام عنه، لأنّ العدو ما كف عن رشق الحسين بالسهام، فوقف سعيد بن عبد الله الحنفي (رضوان الله عليه) أمام الحسين× يتلقّى السهام بصدره وبنحره إلى أن صلّى الحسين×، فلمّا فرغ× من الصلاة سقط سعيد بن عبد الله إلى الأرض، وفيه ثلاثة عشر سهماً، وهو يجود بنفسه، فقال للحسين×: سيدي أوفيتُ يابنَ رسول الله؟! فقال الإمام الحسين×: نعم أنت أمامي في الجَنّة، أقرئ جدي رسول الله عني السلام، وقل له: إنّي تركت الحسين وحيداً فريداً.
قد صلّى الإمام الحسين× صلاةَ الخوف بأهل بيته وبمَن بقيَ من أصحابه، ولكن هل صلّى صلاة المغرب والعشاء؟ نعم صلاها في أول وقتها، وطالت صلاته، ولكن على وجه الأرض، خدّه على وسادة التراب.
اختلف العسكر في حالة الحسين هل هو حيّ أم ميت؟ لأنّه لا حراك فيه، فيخافون أن يدنوا منه، فصاح عمر بن سعد (لعنه الله): إذا أردتم أن تعرفوا حال الحسين هل هو حيٌّ أم ميّت فاهجموا على نسائه وعياله؛ لأنّه إذا سمع صراخ الأطفال لا يتمالك نفسه، فهجم الجيش نحو مخيم الحسين، خرجت زينب÷ ووقفت على التل وصاحت: نور عيني يا حسين، يا بن أُمّي يا حسين، عزيزي يا حسين، إن كنت حيّاً فأدركنا، فهذه الخيل قد هجمت علنيا، وإن كنت ميتاً فأمرك وأمرنا إلى الله.
ما هي إلّا ساعات وإذا بها تنظر إلى رأس أخيها الحسين× على رمحٍ طويل، صاحت وا أخاه وا حسيناه.
لـمّن شافته صفگت
بديها وشگت ثوبها ويلي عليها |
|
|
(تغريد الحزين) إنعمت عيني ولا شوفك ذبيح
ويجري دم نحـرك |
|
|
|
*** |
|
بعد الذبح يا خـويه داسـوك ولا راعوا لعد جدك ولا بوك |
|
|
چنت ذخري وتحت الخيل خلّوك
***
فلو علمتْ تلكَ الخيولُ كأهلِها |
المحاضرة الثالثة: الاستغفار وآثاره
لم أنسَ زينبَ بعد الخدرِ حاسرةً تُبدي النياحةَ ألحاناً فألحاناً |
*****
يجدّي گوم شوف احسين مذبوح على الشاطي وعلی التربان مطروح يجدّي من الطبر ما بگت بيه روح يجدّي من العطش گلبه تفطّر يجدي الرمح بفاده تثنّه يجدي بالوجه للسيف رنّه يجدي الخيل صدره رضرضنّه ولا مفصل بجسمه عيب مهشوم |
قال تعالى: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا﴾[36].
«نستفيد من الآيات المختلفة في القرآن، ومنها الآيات التي هي محل بحثنا، أنَّ الإيمان والعدالة سبب لعمران المجتمعات، والكفر والظلم والخطايا سبب للدمار، نقرأ في الآية (96) من سورة الأعراف: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾، وفي الآية (41) من سورة الروم نقرأ: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ﴾، وفي الآية (30) من سورة الشورى: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾، وفي الآية (66) من سورة المائدة: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾. وآيات أُخرى من هذا القبيل.
هذه الرابطة ليست رابطة معنوية فحسب، بل هناك رابطة مادّية واضحة في هذا المجال أيضاً...
والحقيقة أنّ الحرمان في هذا العالم سببه العقوبات على الذنوب، وفي الوقت الذي يتوب فيه الإنسان ويتَّخذ طريق الطهارة والتقوى، يصرف الله تعالى عنه هذه العقوبات»[37].
إذن هناك رابطة وثيقة بين الذنوب وآثارها من جهة، وبين الأعمال الصالحة وآثارها من جهة أُخرى.
ولو رجعنا إلی قصّة هذه الآيات الثلاث في سورة نوح×، نجد أنّها جاءت بعد دعوات وإنذارات كثيرة تحدَّثت عنها السورة المباركة المسمّاة باسم نبي الله نوح× وبشتّى أنواع الإبلاغ وأساليبه، حتّى وصل بهم المقام أن يضعوا أصابعهم في آذانهم؛ كي لا يسمعوا الحقيقة التي لا تنسجم مع أهوائهم، كان صبره× عجيباً، وأعجب ما فيه رأفته، همّتُه واستقامتُه الفريدة كانتا رأسَ مالِه في السير ومواصلة طريق الدعوة إلی دين الحقّ.
والأعجب من ذلك أنَّه× طيلة دعوته التي دامت (950) عاماً لم يؤمن به إلّا ثمانون شخصاً، ولو قسّمنا هذه المدة على عدد الأنفار يتّضح لنا أنَّ مدة هدايته لكلّ فرد دامت اثنتي عشرة سنة تقريباً!![38].
«يستمر نوح× في تبليغه المؤثِّر لقومه المعاندين العصاة، ويعتمد هذه المرّة على عامل الترغيب والتشجيع، ويوعدهم بانفتاح أبواب الرحمة الإلهية من كلّ جهة إذا ما تابوا من الشرك والخطايا، فيقول: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا﴾»[39].
والآيات الشريفة المباركة جاءت لتحل مشاكل تعرّض لها قوم نوح× بسبب عصيانهم وجحودهم الحقَّ ومخالفته، بل روي أنّ ذلك الأمر منه× إنّما جاء بعد أن حبس الله عنهم المطر، وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة[40]، عندها جاء الأمر بحلِّ هذه المصائب والبلاءات عن طريق الاستغفار والتوبة إلی الله}.
ولو لاحظنا جانباً آخر من حياة الأنبياء^ نجد أنّ هذا الأمر قد تكرَّرَ مع نبيِّ الله هود×، حيث عصوه وعبدوا الأصنام، وابتلاهم الله عز وجل، إذ يقول: ﴿وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ﴾[41].
حقيقة الاستغفار
ولكي ننعم بهذه النعم المترتّبة والمتفرّعة على الاستغفار من اللازم علينا التعرّف على حقيقة الاستغفار لكي نعمل به؛ لأنّ العمل فرع العلم، فما هو الاستغفار، وما هي حقيقته؟
أمّا الاستغفار فهو: «طلب من الله بالقلب واللسان، مثل اللَّهُمَّ اغفر لنا، وعدم الإصرار يكون كناية عن التوبة [42].
وقد يُفرّقُ بين الاستغفار والتوبة بـ«أنَّ الاستغفار طلب المغفرة بالدعاء والتوبة أو غيرهما من الطاعة، والتوبة الندم على الخطيئة مع العزم على ترك المعاودة، فلا يجوز الاستغفار على الإصرار؛ لأنّه مسلبة لله ما ليس من حُكمه ومشيئته ما لا تفعله»[43].
وقد جعل البعض بين توبة العبد، وهي انقطاع العبد إليه بالكلّية، وبين طلب المغفرة بوناً بعيداً[44]، وهو غريبٌ! ووجه الغرابة فيه: أنّ طلب المغفرة مقدّمة موصِلة إلی انقطاع العبد بالكليّة إلی الله ، وهو التوبة بحسب ما ذكره.
وأمّا الاستغفار بحسب ما حدّه لنا أهل بيت العصمة والطّهارة^، الذين لا يزاد على كلامهم، ولا يُتمّم من نقصٍ إن حدّوا ووصفوا، فيبينُه ما جاء على لسان مولى المتَّقين الإمام أمير المؤمنين× حيث قال ـ لقائلٍ قال بحضرته: استغفر الله ـ: «ثكلتك أُمّك أتدري ما الاستغفار؟ الاستغفار درجة العلييّن، وهو اسم واقع على ستة معانٍ:
أوّلها: الندم على ما مضى. والثاني: العزم على ترك العود إليه أبداً. والثالث: أن تؤدّي إلی المخلوقين حقوقَهم حتّى تلقى الله أملس ليس عليك تبعة. والرابع: أن تعمد إلی كُلِّ فريضة عليك ضيّعتها فتؤدي حقّها. والخامس: أن تعمد إلی اللحم الذي نبت على السحت، فتذيبه بالأحزان حتّى تلصق الجلد بالعظم، وينشأ بينهما لحم جديد. والسادس: أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية، فعند ذلك تقول: أستغفر الله»[45].
وهذه الكلمة الشريفة صارت هي الأصل الذي تؤخذ عنه حقيقة الاستغفار والتوبة، حتّى أنَّ ابنَ أبي الحديد في شرحه على النهج بعد ذكره لهذه الكلمة قال: «وينبغي أن نذكر في هذا الموضع كلاماً مختصراً ممّا يقوله أصحابنا في التوبة، فإنَّ كلام أمير المؤمنين هو الأصل الذي أخذ منه أصحابنا مقالتهم، والذي يقولونه في التوبة فقد أتى على جوامعه× في هذا الفصل على اختصاره»[46].
فلكي نحصل على حقيقة الاستغفار علينا أن نُحقّقَ هذه المعاني الستّة، وهي وإن كانت في غاية الوضوح إلّا أنّها ليست سهلة الإمتثال، بل تحتاج إلی عزيمة شديدة، وإرادة أكيدة، ولعلّ ما في دعاء كميل& يشترك مع هذه المعاني لتحقق التوبة النصوح، إذ يقول الدعاء: «وقد أتيتك يا إلهي بعد تقصيري وإسرافي على نفسي، معتذراً نادماً، منكسراً مستقيلاً، مستغفراً منيباً، مقرّاً مُذعناً معترفاً، لا أجدُ مفرّاً ممّا كان منّي، ولا مفزعاً أتوجّه إليه في أمري...»[47].
آثار الاستغفار
ثمَّ إنّه إذا تحقّق الاستغفار بشروطه المتقدّمة، ومعانيه الستّة الآنفة الذكر، فستحصل الآثار المترتّبة عليه، وهي آثار مهمّة يُبذل من أجلها كُلّ غالٍ ونفيس، وهي ستّة أيضاً، وهذه من نعم الله تبارك وتعالى التي تفضّل بها على خلقه، بأن يُضاعف لهم في أفعالهم كما يُضاعف الحسنات، حيث يقول: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ﴾[48].
الأثر الأوّل: غفران الذنوب
بمعنى أنّ المستغفر يحصل على أوضح أثر من آثار عمله، وهو ما سُلخ من نفس العمل، وهو غفران الذنوب والمعاصي، كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾[49].
فالآية رتّبت على التوبة تكفيرَ السيئات، ثمَّ دخول الجنَّات، وهذا أمر طبيعي، فكلّ فعلٍ يصدر لا بدَّ من تحقّق أقرب آثاره إليه، وأقرب آثاره إليه شموله نفس الفعل الصادر، كما هو معلوم بالوجدان.
والملفت للنظر أنَّه تبارك وتعالى لم يقل: «إنّه غفّاراً»، بل قال: «إنّه كان غفّاراً»؛ لأنّه كان غفّاراً في حقّ كُلِّ مَن استغفره، كأنَّه يقول: لا تظنّوا أنّ غفّاريّته إنّما حدثت الآن، بل هو أبداً هكذا كان، فكأنّ هذا هو حرفته وصنعته[50].
وعبّرت الآية بـ(غفّاراً)، ولم تعبر بـ(غافراً، أو غفوراً) لمزيد العناية في كثرة المغفرة، وغفّار من غفر، والغفر هو التغطية، ومنه قولهم: غفرت المتاع أي: جعلته في الوعاء[51].
ويؤيّد هذا المعنى اللغوي الروايات الشّريفة في باب التوبة من الذنوب والاستغفار.
ففي الكافي الشريف، عن معاوية بن وهب، قال: «سمعتُ أبا عبد الله× يقول: إذا تاب العبد توبةً نصوحاً أحبّه الله فستر عليه. فقلت: وكيف يستر عليه؟ قال: يُنسي ملكيه ما كانا يكتبان عليه، ويوحي [الله] إلی جوارحه وإلى بقاع الأرض: أن أكتمي عليه ذنوبه، فيلقَ الله} حين يلقاه وليس شيءٌ يشهد عليه بشيء من الذنوب»[52].
ولا معنى للستر عليه إذا لم يكن تغطية لذنوبه حتّى يصير التائب والمستغفر لا ذنب عليه، كما روي عن رسول الله’ أنّه قال: «والتائب من الذنب كمَن لا ذنب له»[53].
هذا هو الأثر الأول للإستغفار، وهو غفران الذنوب، وهو أثر معنوي، بخلاف الخمس البواقي الآتية.
الأثر الثاني: كثرة الأمطار
الأثر الثاني من آثار الاستغفار (كثرة المطر) فلا يغفر لكم ذنوبكم وحسب، بل يرسل السماء عليكم مدراراً، وهي من صيغ المبالغة أيضاً، فيفيض عليكم بأمطار الرّحمة،كما ينسكب الحليب من صدر الأُمّ؛ ولذا لم تقل الآية: ينزل عليكم المطر أو الماء، كما في قوله تعالى ﴿وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴾[54]، وإنّما عبّرت الآية بـ(يرسل السماء)؛ فالسّماء تكاد أن تهبط من شدّة هطول الأمطار، وبما أنّها أمطار رحمة وليست نقمة؛ فلذا لا تُسبب خراباً وأضراراً، بل تبعث على الإعمار والبركة والحياة[55].
من هنا ذكر العلماء في مسألة صلاة الاستسقاء المتابعة في الدعاء والاستغفار.
قال المحقّق الحلّي&: «يبالغ في الدُعاء و الاستغفار، ويُعاودون إن تأخرت الإجابة، أمّا تأكيد الاستغفار؛ فلقوله تعالى: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا﴾»[56].
والأمطار الغزيرة هنا أمطار رحمة وبركة، كما يدلّ عليه قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾[57]، فواحدة من بركات السماء التي ينزلها} عندما يؤمن أهل القُرى ويتّقوا هي أمطار الرحمة[58].
فمن علَّلَ الجدوبة وقلّة الأمطار بكثرة الذنوب والمعاصي، يرى أنَّ الاستغفار يرفعها ويزيلها، ويثبت ما هو ضدها، وهو الخصب، ونزول المطر الكثير النافع.
الأثر الثالث: المدُّ المالي
والأثر الثالث المترتّب على الاستغفار هو المدّ المالي الذي ارتفع وانقطع، أو ضعف بسبب الذنوب والمعاصي، فإنّه يعود مرّة أُخرى إليكم بعد أن تتابعوا الاستغفار والتوبة، فمَن ضاقت عليه معيشته أو قُدِرَ عليه رزقُه فعليه بكثرة الاستغفار، فعن نصر بن زياد، قال: «كُنتُ عند جعفر بن محمّد ـ يعني الإمام الصّادق× ـ فأتاه سفيان الثوري، قال: يا ابن رسول الله، حدِّثني فقال: يا سفيان. إذا استبطأت الرزق فأكثر من الاستغفار»[59].
فلاحظ كيف ترتّب على التوبة «إيتاء الفضل في الآخرة، وناسبَ كلَّ جوابٍ لِما وقع جواب له؛ لأنَّ الاستغفار من الذنوب أوّل حال الراجع إلی الله، فناسب أن يرتّب عليه حال الدنيا، والتوبة هي المنجية من النار، والتي تُدخِل الجنّة»[60].
الأثر الرابع: المدّ بالبنين
والأثر الرابع المُترتّب على الاستغفار، المدُّ بالبنين، وهو أثر لا يقلّ أهمّية من المدِّ المالي، إن لم يكن أهم، كما نرى في حياتنا اليوميّة الكثير من الناس ممّن لهم الاستعداد في أن يبذلوا كلَّ ما عندهم من أموال في سبيل أن تكون لهم ذريّة، مع أنَّ المال والبنين كليهما زينة الحياة الدنيا، كما قال تعالى: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾[61] لكنّنا نسمع من هنا وهناك الكثير حول هذا الموضوع، (لا قيمة للمال إذا لم يكن عندك عيال) وهذا ممّا ابتلى به الباري} عبادَه، حيث يقول جلّت أسماؤه: ﴿ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾[62]. وهذه الآية الشريفة تعبيرٌ واضحٌ عن هذا المصير، حتّى وردت روايات كثيرة عن سؤال بعض المؤمنين للإمام المعصوم× في تعليمهم ما يُمكّنهم من الحصول على الذريّة، وسأنقل هنا شواهد على الثلاثة الأخيرة، أعني: الجدوبة، والفقر، وعدم البنين.
فقد روُي أنّ رجلاً أتى الإمامَ الحسنَ× فشكا إليه الجدوبة، فقال الحسن×: «استغفر الله»، وأتاه آخر فشكا إليه الفقر، فقال له: «استغفر الله»، وأتاه آخر فقال له: ادعُ الله أن يرزقني ابناً، فقال له: «استغفر الله»، فقلنا له: أتاك رجالٌ يشكون أبوابا،ً ويسألون أنواعاً، فأمرتهم كُلَّهم بالاستغفار؟ فقال: «ما قلت ذلك من ذات نفسي، إنّما اعتبرت فيه قول الله: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا﴾[63] [64].
الأثر الخامس والسادس: جعل الجنّات والأنهار
وهذان الأثران من الآثار المترتّبة على الاستغفار لاحقاً في الدار الآخرة، وبمعنى آخر: إنَّ رحمة الله تبارك وتعالى المترتّبة على الاستغفار تعدّت محيط الحياة الدنيا؛ لتنتقل إلی سعادتين أُخريين تنتظران المستغفرين، وهما سعادة الجنات والأنهار، بمعنى دخول الجنّة، وليست الجنّة بأدنى مراتبها ـ مع أنّها أفضل من الدنيا بما لا يُعدُّ ولا يُحصى ـ بل الجنّات المشتملة على الأنهار، وأي جنّات هذه التي قسّمتها هذه الأنهار!! وأيّ حدائقٍ هذه التي جُعلت فيها الأنهار لتزيدها بهاءً وحُسناً!!.
فلا شكّ أنّها حدائق ذات بهجة، إلّا أنّها ليست حدائق دنيوية، كما قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ﴾[65]، بل هي حدائق أُخروية.
ومن تلك الأنهار التي يتنعّم بها المؤمنون يومَ القيامة في الجَنّة نهر الفرات[66]، ولعلّه لأجل أن يتذكّر المؤمنون وهم في الجَنّة تلكَ المُصيبةَ التي جرت على أبي عبد الله × على شاطي الفرات.
ينقل شيخنا المنصوري & :
إنّ الله تعالى فتح باباً للزهراء‘ يوم عاشوراء، وهي في مكانها المعدّ لها بعد الوفاة لتنعم به، فتح لها باباً لمشاهدة ولدها الحسين× فرأته صريعاً يتلظّى عطشاً، قعدت به كثرة الجراح من الحركة، وكان أملُها أن يُداوى أو يُسقى ماءً، ولكن لمّا أقبل الشمر ومكّن السيف من نحره، لم تطق النظر إليه، ولكن توجّهت إلی مَن معها من الحور العين، وكأنّي بها‘ تخاطبُ الحورَ العين:
يالحور
گوموا زيّنوا جنّة الفردوس |
ثمَّ تلتفت إلی الأمين جبرئيل×:
جبريل وين أجسادهم دلّيني بيها |
المحاضرة الرابعة: عداوة الشيطان لبني آدم
أحلماً وكادت تموتُ السُنن لِطولِ انتظارِك يا بنَ الحَسَن طبّوا للخيام وفرهدوهـــا وعزيزات النبوّة سلّبـــــوها اوچم طفلة النبيهم روّعوها اوفرت من خِيَمها اتحوم واتدور عگب ما فرهدوا ذيچ الصواوين شبّوا نارهم بخيام الحسين اوطلعت هايمه ذيچ النساوين يتاماها تعثر بين الصخور |
***
قال تعالى: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾[69].
من السُنن الإلهية في هذه الحياة الدنيا سُنّةُ الإبتلاء والإمتحان، وهي سُنّةٌ عامّةٌ أكيدةٌ، وقد أشارَ القُرآنُ الكريمُ إلى عموميّة هذه السُنة في آياتٍ عديدةٍ، كقوله تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾[70].
وهذهِ السُنَنُ لا تتخلّفُ من جيلٍ إلى آخر، وإن كانت تختلف في صورها وأشكالها، فتتصوّر تارةً بالفقر، وأُخرى بالشَّك، وثالثة بالوسوسة، وهكذا.
وخيرُ شاهدٍ على ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾[71].
ومن الفتن والابتلاءات: الأموال والزوجة والأولاد، وقد يصل الأمر إلى حدّ أن تصبح الزوجة والأولاد هم العدوّ الذي يصدُّ عن الله وذكره.
قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ﴾[72].
ومن أشدّ الأعداء ـ مع ابتلاءات الدنيا وعقوباتها، والنفس والأولاد والزوجة ـ إبليس (عليه اللعنة).
قال الشاعر:
«إبليسُ والدُنيا ونـفسي والهوى كيفَ الخلاصُ وكُلّهُم أعدائي»[73] |
هذا العدو الذي أقسم لأبينا آدم وأُمنّا حوّاء بأعظم الأقسام ولم يكن صادقاً، كما حكاه لنا القرآن الكريم، حيث يقول تبارك وتعالى: ﴿وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ﴾[74]فهو(لعنه الله) مع القَسم والتأكيد بالنصيحة يخادع ويمكر، فكيف معنا نحن البشر، الذين تعهد بأنّ لا يتركنا طرفة عينٍ، وأقسم بعزّة الله أن يغوينا؟! كما حكى القرآن الكريم ذلك على لسانه.
قال تعالى: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ﴾[75].
وهذا تحذيرٌ رهيبٌ و إشارةٌ خطيرةٌ ؛ إذ مع النصيحة يخدعُ ويمكرُ، فكيف نتصورُ حالَنا مع الأقسام المغلّظة بالإغواء والخديعة، فلا شكَّ سيكونُ الأمر أخطر وأمرّ!!
والنتيجة هي عذاب السعير، كما في الآية التي افتتحنا بها الكلام، وهكذا في قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ﴾[76].
فهو (لعنه الله) بعد أن تمَّ طرده من ساحة القدس والجلال، طلب من الله أن ينظره إلى يوم القيامة.
قـــال تـعـالى: ﴿ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ * قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ﴾[77].
وبعد هذا الخسران الذي أصاب إبليس، وخيبة الأمل التي تعرّض لها، اتّخذ طريقاً للإغواء والمخادعة لبني البشر، كما حكى لنا القرآن الكريم كلَّ ذلك، حيث يقول: ﴿ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ * قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ ﴾[78].
ولكن مع شديد الأسف، هذا الشيطان الرجيم صار عند الإنسان من أقرب أصدقائه الحميمين، لايبارحنا نحن البشر وقد اتّخذناه بدلاً عن الهداية والاستقامة، فاستبدلْنا الذي هو أدنى بالذي هو خير.
قال تعالى: ﴿أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا﴾[79].
إبليس عدوٌ لا كالأعداء
هذا العدو يختلف عن باقي الأعداء ؛ لأنَّ المُحتملات في كلّ الأعداء ثلاثة:
إمّا أن تتغلّبَ عليه، أو يتغلّب عليك، أو تكون هناك هدنة أو صلح، بخلاف عدوّنا إبليس، فالموجود إحتمالان اثنان لا ثالث لهما، وهما: إمّا أن يستسلم على أيدينا ونتغلّبَ عليه، أونستسلم على يديه ويتغلّب علينا، ولا يوجد احتمال الهدنة؛ بعد أن سمعنا أقسَامَه المُغلّظة بالغواية المستمرّة لنا.
من هنا سُئل رسول الله عندما ذكر أنَّ لكلّ إنسانٍ شيطان، فقيل له: وأنت يا رسول الله ألك شيطان؟
فقال’: «إنَّ الله أعانني على شيطان حتى أسلم على يدي»[80].
وباستسلام إبليس وعدم قدرته على غوايتنا نكون أفضل من الملائكة، وإلّا فنحن والبهائم على حدٍّ سواء، فالمسألة خطيرة جدّاً.
فقد روي عن عبد الله بن سنان، قال: سألت أبا عبد الله جعفر بن محمد الصادق‘، فقلت: الملائكة أفضل أم بنو آدم؟ فقال: «قال أمير المؤمنين عليُّ بنُ أبي طالب×: إنَّ اللهَ} ركّبَ في الملائكة عقلاً بلا شهوةٍ، وركّبَ في البهائم شهوةً بلا عقلٍ، وركّب في بني آدم كليهما، فمَن غَلَبَ عقلُه شهوتَه فهو خيرٌ من الملائكة، ومَن غَلبَتْ شهوتُه عقلَه فهو شرٌّ من البهائم»[81].
طُرُق الشيطان وخطواته
والشيطان له طُرُقه الخاصّة به وبأبالسته، وهي المُعبّر عنها بالخطوات، التي نهانا اللهُ تبارك وتعالى عن إتّباعها، كما صرّح بذلك القُرآن الكريم، حيث يقول: ﴿آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾[82]، و(الخطوات) جمع (خطوة) وهي المرحلة التي يقطعها الشيطان للوصول إلى هدفه، وهو التغرير بالناس. وعبارة لا تتّبعوا خطوات الشيطان، تكرّرت خمس مرات في القُرآن الكريم، وجاءت في موضعين بشأن الاستفادة من الأطعمة والرزق الإلهي، وهي تحذير من استهلاك هذه النعم الإلهية في غير موضعها، وحثٌّ على الاستفادة منها في طريق العبودية والطاعة، لا الفساد والطُغيان في الأرض؛ للنهي عن إتّباع خطوات الشيطان في استثمار مواهب الطبيعة، وهذا ما توضحه آيات أُخرى تنهى أيضاً عن الإفساد في استثمار ما وهبه الله للناس، كقوله تعالى: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾[83]، وكقوله سبحانه: ﴿كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ ﴾[84]، هذه المواهب والإمكانات ينبغي أن تكون طاقةً دافعةً نحو الطاعة، لا وسيلة لارتكاب الذنوب، وعبارة ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ تكرّرت في القُرآن الكريم عدّة مرات بعد الحديث عن الشيطان؛ كي تحفّز الإنسان، وتجعله متأهباً لمُجابهة هذا العدو اللدود الظاهر، والآية التالية تؤكّد على عداء الشيطان، وعلى هدفه المتمثّل في شقاء الإنسان، وتقول: ﴿ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾.
ومنهج الشيطان يتلخّص في ثلاثة أبعاد هي:
(السوء، والفحشاء، والتقوّل على الله) الفحشاء من (الفُحش) ، وهو كلّ عمل خارج عن حدّ الاعتدال، ويشمل كلّ المنكرات والقبائح المبطّنة والعلنية، واستعمال هذه المفردة حالياً بمعنى الأعمال المنافية للعفّة هو من قبيل استعمال اللفظ الكلّي في بعض مصاديقه[85].
فأُسلوب الشيطان هو التدرّج في أخذ الإنسان إلى الهاوية، فيبدأ معه رويداً رويداً إلى أن يرميه في الهاوية، وفي وادٍ سحيقٍ نسألُ اللهَ العونَ والهدايةَ والتنبّهَ من الغفلة.
ويمكن تلخيص دعوته إلى السعير بعدّة مصاديق، نذكر منها:
1ـ زرع الفتن والبغضاء والعداوة بين الناس، وإشعال نار الحقد والعداء بين بني البشر، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في عدّة آيات:
منها: قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ﴾[86].
وقوله تعالى: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ﴾[87].
وقـوله تـعـالى: ﴿مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي﴾[88]، وعن الإمام الصَّادق× أنَّه قال: «يقول إبليس لجنوده: ألقوا بينهم الحسد والبغي، فإنهما يعدلان عند الله الشرك»[89].
2ـ تزيين العمل القبيح لصاحبه، وهذا من أشدِّ الأخطار على الإنسان حذرّنا منه القُرآن الكريم: ﴿فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾[90].
3ـ الوعود والأُمنيات الكاذبة والمخادعة الباطلة التي يفضحها لنا الباري؛ إذ يقول: ﴿يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ﴾[91].
ومن هنا يُسئل إمامنا الصَّادق× عن قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾[92]، فيقول: «لمّا نزلت هذه الآية صعد إبليس جبلاً بمكة يُقال له ثور، فصرخ بأعلى صوته بعفاريته فاجتمعوا إليه. فقالوا: يا سيدنا، لِمَ دعوتنا؟ قال: نزلت هذه الآية، فمَن لها؟ فقام عفريت من الشياطين، فقال: أنا لها بكذا وكذا. قال: لست لها، فقام آخر فقال مثل ذلك، فقال: لست لها. فقال الوسواس الخنّاس: أنا لها، قال: بماذا؟ قال: أعدهم وأمنيهم حتى يواقعوا الخطيئة، فإذا واقعوا الخطيئة أنسيتهم الاستغفار، فقال: أنت لها، فوكّله بها إلى يوم القيامة»[93].
وهذا هو الذي حصل مع أُخوة يُوسُف× بعينه كما قصَّ لنا القرآن الكريم ذلك، حيث يقول: ﴿ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ﴾[94].
ولكن الذي يقتل نبيّاً أو وصيّاً أو وليّاً هل يوفّق للتوبة؟!
وهذا المعنى تكرّرَ مع ابنِ سعدٍ ـ لعنه الله ـ حيث غرّته الأماني ووسوس له الشيطان بأنّه إذا قتل الإمام الحُسينَ× سوف يتوب بعد ذلك، عندما عُرضت عليه إمارة الرّي كان في البدء متردّداً في الخروج، ثمَّ ذهب إلى منزله وأخذ يمشي في فناء الدار وينشد:
فواللهِ ما أدرى وإنّي لصادقٌ |
وهذا اللعين هو أوّلُ مَن رَمى مُخيّمَ الحُسينِ ومُعسكرِه مُفتخِراً بذلك.
يقولُ ابنُ أعثمَ الكوفي: «وتقدّم عُمرُ بنُ سعدٍ حتّى وقف قبالة الحُسين على فرسٍ له، فاستخرج سهماً فوضعه في كبد القوس، ثمَّ قال: أيُّها النَّاس! اشهدوا لي عند الأمير عُبيدِ الله بن زياد أنّي أوّل مَن رمى بسهمٍ إلى عسكر الحُسين بن عليّ! قال: فوقع السهم بين يدي الحُسين، فتنحّى عنه راجعاً إلى ورائه، وأقبلت السهام كأنّها المطر، فقال الحسين لأصحابه: أيها الناس، هذهِ رسُلُ القومِ إليكم، فقوموا إلى الموت الذي لا بدَّ منه»[96].
هذا مبدأ أعماله وأمّا خاتمةُ الأعمال التي قام بها ابنُ سعدٍ ـ لعنه الله ـ فهي أدهى وأمرّ!!
ماذا صنع؟ الأمرُ شديدٌ، وسماعُهُ مُحرِقٌ للقُلوبِ، ومُقرحٌ للجفون، فاستعد لسماعه لتُشارِكَ زينب‘ في لوعتها ومُصابها.
وكأنّي بها‘ تخاطب أخاها أبا عبد الله×:
بس ما غبت وگفيت يحسين عن كربلا صرنه مضعنين |
(أبوذية)
دليلي بجور سيف الدهرينشاف ولي ناظر يكت ما بعد ينشاف |
***
وأعظم ما يشجي الغيور دخولها إلى مجلس ما بارح اللهو والخمرا |
المحاضرة الخامسة: هَجْرُ القرآن
إن كانَ عندكَ عَبرةٌ تُجريها فانزلْ بأرضِ الطَّفِّ كي نُسقيها فعسى نبلُّ بها مضاجِعَ صفوةٍ ما بُلّتِ الأكبادُ من جاريها ولقد مررتُ على منازلِ عصمةٍ ثقلُ النبوّةِ كان أُلقيَ فِيها فبكيتُ حتّى خلتُها ستُجيبُني ببُكائِها حُزناً على أهليها وذكرتُ إذ وقفت عقيلَةُ حيدرٍ مذهولةً تُصغي لصوتِ أخيها بأبي التي ورثتْ مصائبَ أُمّهِا وغدتْ تُقابلُها بصبرِ أبيها لم تلَهُ عن جمعِ العيالِ وحفظِهم بفراقِ إخوتِها وفقدِ بنيِها لم أنسَ إذ هتـــكوا حمــاهــا فانثنــت تشكو لواعجَها إلی حاميها تدعو فتحترقُ القُلوبُ كأنّما يرمي حَشاها جمرُهُ مِن فيها هذي نساؤُكَ مَن يكون إذا سرت في الأسرِ سائقُها ومَن حاديها أيسوقُها زجـرٌ بضـربِ متُونِها والشمرُ يحدوهـا بسبِّ أبيها[97] |
وكأنّي بها‘:
ودعّتك الله يا عيوني يردون عنّك ياخذوني |
***
يحادي لا تسج بالضعن بيداي وگلبي الفگد أبو السجّاد بيداي |
***
قال تعالى: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا ﴾[98].
هناك جملة من المخلوقات تشتكي إلی الله يومَ القيامة، وتطالب بالحقوق والمظلوميات التي أصابتها وتعرّضت لها.
وأفضل هذه المخلوقات وأكملها الإنسان، الذي فضّله الله على جميع المخلوقات، حيث يقول: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾[99].
وأفضل بني آدم بما فيهم جميع الأنبياء والرسل هو النبيُّ الأكرم محمّد’.
وشهادة الرسول’ حقيقة قرآنية، لا يمكن انكارها؛ للتصريح بها في غير واحدة من الآيات، حيث يقول : ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ﴾[100].
وقال تعالى: ﴿ وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ﴾[101].
وقال تبارك وتعالى: ﴿ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ ﴾[102].
«وقول الرسول’ هذا، وشكواه هذه، مستمران إلی هذا اليوم من فئة عظيمة من المسلمين، يشكو بين يدي الله أنّهم دفنوا القرآن بيد النسيان، القرآن الذي هو رمز الحياة، ووسيلة النجاة، القرآن الذي هو سبب الانتصار والحركة والتفوّق»[103].
وقد يسأل سائل ويقول: كيف يشكو رسول الله’ قومَه ويشهد ضدهم، وفيهم من أهل القرآن والدين الكثير؟
والجواب: «إنَّ هذه الشكوى والشهادة لا تعمّ جميعَ أُمّة النبيِّ’، وإنّما البعض. كيف! وفيهم أولياء القرآن، ورجال لا تلهيم تجارة ولا بيعٌ عن ذكر الله»[104].
وممّا لا إشكال فيه أنّ المراد بالرسول هنا هو شخص النبيّ الأكرم محمّد’ بقرينة ذكر القرآن، وعبّر عنه بالرسول تسجيلاً لرسالته، وإرغاماً لأولئك القادحين في رسالته وكتابه... وهذا القول ممّا يقوله الرسول يوم القيامة لربه على طريق البثّ والشكوى، وعلی هذا فالتعبير بالماضي بعناية تحقق الموضوع، والمراد بالقوم عامّة العرب، بل عامّة الأُمّة لكن بلحاظ الكفرة والعصاة منهم، فليس الأمر فيهم على حدّ سواء[105].
ومن طريف القول ما وقع من النزاع بين رجلين من أُمّة النبيِّ الأكرم| في ذلك، والأوّل هو معاوية بن أبي سفيان، حيث كان يفتخر بأنّه من قريش، حيث يقول أمامَ الرَّجُل الثاني ـ وهو رجل من الأنصارـ: «فضّل الله قريشاً بثلاث:
1ـ ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾[106]، ونحن الأقربون.
2ـ ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ ﴾[107]، ونحن قومه.
3ـ و﴿لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ﴾[108].
فقال الرجل الأنصاري: على رَسْلِكَ يا معاوية، قال الله: ﴿وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ﴾[109] وأنت من قومِه، و﴿إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ﴾[110] وأنت من قومه، و﴿ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ﴾[111] وأنت من قومه، فهذه ثلاث بثلاث، ولو زدتنا لزدناك. فأفحمه»[112].
نعود إلی أصل البحث، وهو اتّخاذ القرآن مهجوراً؛ حتّى نعرف ما هو الهجر الذي يسبب الشكوى؛ لكي نجتنبه ولا نكون ممَّن يتّصف به.
الهَجْر لغة:
الهَجْر في اللغة: هو قول الخنا والإفحاش في المنطق[113]، أو قول غير الحقّ، مثل قول المريض[114] أو الهذيان[115].
وعليه نزّل بعض المُفسّرين تفسير الآية المباركة، حيث قال: «واختلف أهلُ التأويل في معنى اتّخاذهم القرآن مهجوراً، فقال بعضهم: كان اتّخاذهم ذلك هجراً قولهم فيه السيء من القول، وزعمهم أنّه سحر، وأنّه شِعْر»[116].
وفي تفسير الثعلبي قال: «...وقال الآخرون: هو من الهجران، أي: أعرضوا عنه وتركوه، فلم يؤمنوا به ولم يعملوا بما فيه»[117].
ومن هنا نعرف «أنَّ هذا الهجر لا يكون إلّا بعد وصل، فالمشركون لم يأتوا إلی القرآن، ولم يدخلوا في ظلّه؛ ليهجروه بعد ذلك، بل هو في بعض أُمّة محمّد’»[118].
هذا ما وقفت عليه من كلمات أهل اللغة.
الهَجر اصطلاحاً
وأمّا الهَجر اصطلاحاً، فيمكن أن يتحقّقَ في الخارج بأحد الأنحاء التالية:
النحو الأول: عدم قراءته
قد يكون أوضح مصداق لهَجْر القرآن الكريم هو عدم التلاوة والقراءة له، وهذا صريح في روايات أهل البيت^، فقد روي عن الإمام أبي الحسن الرضا× أنّه قال: «أُمر الناس بالقراءة في الصلاة؛ لئلا يكون القرآن مهجوراً وضيعاً، وليكون محفوظاً مدروساً»[119].
وهذا هَجرٌ للقرآن باللسان، فقد يكون قلب الإنسان متعلّقاً بالقرآن الكريم لكنّه لم يتعاهده ولم يقرأه؛ لانشغاله بأمور دنيوية أو معاشية واجبة أو مستحبة.
ولذا قسّم الراغب الأصفهاني الهَجر إلی هَجْرِ القلب، وهَجْرٍ بالقلب واللسان[120].
ومن هنا ورد الحثُّ الأكيد، والثواب الجزيل على تلاوة القرآن الكريم وتعاهده؛ لكي لا تحصل القطيعة بين العبد وبين دستوره الأساس القرآن الكريم.
ففي الكافي الشريف عن أبي عبد الله الصادق× أنَّه قال: «القرآن عهد الله إلی خلقه، فقد ينبغي للمرء المسلم أن ينظر في عهده، وأن يقرأ منه كُلَّ يوم خمسين آية»[121].
وفيه أيضاً عن أبي جعفر× قال: «قال رسول الله’: مَن قرأ عشر آيات في ليلةٍ لم يُكتب من الغافلين، ومَن قرأ خمسين آية كُتب من الذاكرين، ومَن قرأ مائة آية كُتب من القانتين، ومَن قرأ مائتي آية كُتب من الخاشعين، ومَن قرأ ثلاث مائة آية كُتب من الفائزين، ومَن قرأ خمسمائة آية كُتب من المجتهدين، ومَن قرأ ألف آية كُتب له قنطار من تبر؛ القنطار خمسة عشر ألف مثقال من ذهب، والمثقال أربعة وعشرون قيراطاً أصغرها مثل جبل أُحد، وأكبرها ما بين السماء إلی الأرض»[122].
النحو الثاني: عدم التدبّر فيه
ومن مصاديق هَجْر القرآن الكريم عدم التدبّر في معانيه، وعدم التأمّل في مضامينه، فقد لا يكون العبد متّصفاً بالنحو الأول من الهَجر ـ عدم التلاوة ـ بل كان يُكثر من القراءة له، لكنّها قراءة غير متدبّرة، بل قراءة عابرة لا تزيد على لقلقة اللسان.
وقد ذمّ الله} أقواماً لم يتدبّروا القرآن، حيث يقول تبارك وتعالى: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾[123].
وعن النبيِّ’ أنّه لما نزلت بعض الآيات، قال: «ويلٌ لمَن لاكها بين فكّية، ولم يتأمّل فيها»[124].
وعن الإمام أمير المؤمنين× أنَّه قال: «ألا لا خيرَ في قراءةٍ لا تدبُّر فيها»[125].
بل ورد في الأدعية المرويّة عن أهل البيت^ الدعاء برفع الغشاوة عن البصر والقلب؛ لأجل فهم الآيات المباركة، والتدبّر في معانيها، والتأمّل في مضامينها.
فعن الإمام الصَّادق× أنَّه كان إذا قرأ القرآن يأخذ المصحف ويقول: «... اللَّهُمّ أنّي أشهد أنَّ هذا كتابك المنزل من عندك، على رسولك محمّد بن عبد الله... ولا تطبع عند قراءتي على قلبي، ولا على سمعي، ولا تجعل على بصري غشاوةً، ولا تجعل قراءتي قراءةً لا تدبُّر فيها، بل اجعلني أتدبّر آياته وأحكامه، آخذاً بشرائع دينك»[126].
وقال بعض الأكابر: «... وأمّا مَن وفّقه الله تعالى لتلاوته بتفكّر وتدبّر وتفهّم لمعانيه واستنباط لأحكامه، فلا مرية أنَّ تلاوته وإن قلّت أفضل من ختمات»[127].
ولا يخفى أنّ الثمرة من هذا الحثّ الأكيد، والطلب الشديد على التدبّر في التلاوة مرجعها إلی القاريء نفسه أولاً، فهو المستفيد الأول من هذه القراءة التي تدبَّر فيها، فكم من عاصٍ اهتدى بآيةٍ، وكم من قاطع طريق اهتدى بتدبّرٍ في استماعه لقارئٍ لآيةٍ من القرآن الكريم. حتّى روي أنّ رجلاً ـ وهو الفضيل بن عياض ـ كان يقطع الطريق، وأنَّه عشق جاريةً وارتقى جداراً لها، فسمع تالياً يتلو ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ ﴾[128] فتاب ورجع، فورد مكة وجاور بها الحرم ومات بها سنة 187هـ[129].
فلو لم يكن قد تأمّل في هذه الآية التي تطلب الرجوع إلی الله}، والخشوع أمام عظمته وجبروته؛ لما اهتدى ولما تاب، بل مضت الآية كغيرها من آلاف الآيات التي قُرأت وسُمعت في آناء الليل وأطراف النهار.
وقد ضرب أهل البيت^ أروع أمثلة التدبّر في القرآن الكريم، فعن الإمام الرضا× أنّه قال: «لو أردتُ أن أختُمَ في أقلّ من ثلاث لختمتُ، ولكن ما مررتُ بآيةٍ قطّ إلّا فكّرت فيها، وفي أيِّ شيءٍ أُنزلت، وفي أي وقتٍ، فلذاك صرت أختمه في ثلاث»[130].
النحو الثالث: عدم التطبيق وترك العمل بالمضمون
النحو الثالث من أنحاء الهَجْر هو عدم العمل بالمضمون، فقد يكون العبد كثير التلاوة والتدبّر، لكن ما إن ينتهي من تلاوته وتدبّره تنتهي عنده حالة التفاعل مع المضمون الذي تدبّر فيه، فلا ينزله إلی الواقع الخارجي ولا يعمل بمضمونه.
فمثلاً نجد قارئاً للقرآن الكريم يقرأه على أحسن وجه، ويتدبّر جيداً في قوله تعالى: ﴿ هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾[131]، ويتدبّر فيها جيداً، ويعلم أنّ القرآن لا يفوته شيء لا صغير ولا كبير، حيث يقول عزّ من قائل: ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾[132] لكنّه في التطبيق الخارجي تارةً يسخر من هذا، وأخرى يكذب على ذاك، فيُملي على حافظيه كتاباً مملوءاً بالذنوب والمعاصي.
وهذا النحو من الأنحاء الثلاثة هو أكثر ما يقع به الناس، بل أكثر ما يتورّط به أهلُ الدراية والفهم، فللأسف الشديد تجد الكثير من هؤلاء ممَّن ينطبق عليه عبارة (يعرف ويحرف) فلعلَّكَ لا تجده يفارق القرآن الكريم وتلاوته، ولا يفارق التدبّر فيه وفي مضامينه العالية، لكنّه ما إن ينتهي حتّى تجده يرتكب عين ما قرأه، وعين ما تدبّر فيه، وهذه مصيبة عظمى، ورزية كبرى، سواء كانت المخالَفة على مستوى العقائد أم على مستوى الأحكام والآداب، فهو يقرأ قول تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾[133]، وبصوتٍ حسنٍ، ويتأمّل فيها ويتدبّرها جيداً، لكن عندما يريد أن يصل إلی العمل بمضمونها تراه يتردّد؛ لأنها لا توافق معتقده ومزاجه المُرّ، ونفسه الخبيثة.
وفي نفس السياق هناك آية أُخرى، وهي قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا﴾.
وقد ورد قريب من هذا المعنى في قوله تبارك وتعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ ﴾[134].
والمعنى الإجمالي للآية الشريفة هو التسلية لقلب رسول الله ’ «أي: كما جعلنا هؤلاء المجرمين عدوّاً لك، كذلك جعلنا لكلّ نبيٍّ عدوّاً منهم، أي: هذه من سنتنا الجارية في الأنبياء وأُممهم، فلا يسؤنَّكَ ما تلقى من عداوتِهم، ولا يشقّنَّ عليكَ ذلك، ففيه تسلية للنبيِّ’...ومعنى جعل العدوّ من المجرمين:أنّ الله جازاهم على معاصيهم بالختم على قلوبهم، فعاندوا الحقّ وأبغضوا الداعي إليه، وهو النبيُّ، فلعداوتهم نسبه إليه تعالى بالمجازاة، وقوله: ﴿وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا﴾ معناه ـ على ما يعطيه السياق ـ لا يهولنَّكَ أمر عنادهم وعداوتِهم، ولا تخافنَّهم على اهتداء الناس، ونفوذ دينك فيهم وبينهم، فحسبك ربُّكَ كفى به هادياً، يهدي مَن استحق من الناس الهداية واستعدَّ له... فظهر أنَّ صدر الآية مسوق لتسلي النبيِّ’، وذيلة للاستغناء عن المجرمين من قومه»[135].
ولذا لم تنتهِ العداوة بشخص النبيِّ الأكرم’، بل تتبّعتْ كلّ مَن له صلة وثيقة به’ من أهل بيته الأطهار^؛ بيت عليّ وفاطمة‘، فكان القوم أبناء القوم، بالأمس كان العدو للرسول الأكرم هو أبو جهل، وأبو لهب، وأبو سفيان، واليوم معاوية، ومروان، ويزيد، وأضرابهم.
ومن هنا نرى أنَّ معاوية لمّا قدِمَ المدينة صعد المنبر، فخطب ونال من عليّ×، فقام الحسن، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: «... إنّ الله لم يبعث نبيّاً إلّا جعل له عدوّاً من المجرمين، قال الله ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ﴾ فأنا ابنُ عليٍّ وأنت ابنُ صخرٍ، وأُمّك هند وأُمّي فاطمة، وجدتُك قتيلة وجدتي خديجة، فلعن الله ألأمَنا حَسَبَاً، وأخملنا ذكراً، وأعظمنا كفراً، وأشدَّنا نفاقاً».
فصاح أهلُ المسجد: آمين، آمين، فقطع معاوية خطبته ودخل منزله[136].
واستمرّت عداوة المجرمين، وشياطين الجنّ والإنس تأجّج نار العداوة والبغضاء، حتّى تجلّت بأبشع صورها، وأشدّ مظاهرها على جسد أبي عبد الله الحسين×، يعني على جسد رسول الله’؛ لأنَّه جدّ الحسين وهو القائل: «حُسينٌ منّي وأنا من حُسين»[137]، فقتّلت ذرية رسول الله بأيدي أعداء الله وأعداء رسوله، والأدهى من ذلك أنّهم يقتلون أولاد الأنبياء، ويتكلّمون بكلام الصدّيقين، كما قالها ابن عفيف الأزدي أمامَ عبيد الله بن زياد في الكوفة[138]، بل يتكلّمون بكلام الله}، وهو ما أمر به تبارك وتعالى من تكبير وتهليل.
وكما يقول الشاعر:
ويُكبّرون بأن قُتلتَ وإنّما |
بل قتلوا القرآن ونحروه وضيّعوه، ولذا تقرأ في زيارة الإمام الحسين× المطلقة: «...فقُتلتَ مظلوماً، وأصبح رسولُ الله’ بكَ موتوراً، وأصبح كتابُ الله من أجلِكَ مهجوراً»[140].
نعم، أصبح كتاب الله مهجوراً بكلّ أنحاء الهَجر الثلاثة؛ فلم يقرؤوا الحسين ولم يتدبّروه، ولم يعملوا بمضمونه ومداليله التي تخرجهم من الظلمات إلی النور، فو الله لحظهم أخطأوا، وعن ثواب الله زاغوا، وعن جوار محمّدٍ’ تباعدوا[141].
وساعد الله قلب أُمّه فاطمة الزهراء‘، كأنّي بها تناديه:
مني حاضرة يحسين يبني يمَن ريت ذبّاحك ذبحني |
ونسّاني الضلع وسواد متني
****
أنا الوالدة والگلب لهفان وأدوِّر عزه ابني وين ما چان |
وأما الموالي فينادي:
ما هو لأجل الثواب ابجيت واجره لا جن نار بصميم الگلب وجره إمصاب حسين أبد ما صار وجره فرض كلّ يوم ننصبله عزيّه |
(أبوذية)
اليمّة تنصب بعاشور عـشره على الداست ضلوعه خيول عـشره ولا تنسه الشبجت على الراس عـشره تنادي حسين خويه الحگ عليَّة |
المحاضرة السادسة: التوسّل حقيقة قرآنية
دُمْ يا حُسينُ مدى الزّمانِ مُخلَّدا نوراً وصوتَ هدايةٍ لن يُخمدا هذا طريقُك وهو سيفٌ قاطعٌ فيه نُحطِّمُ مَن عليه تمرّدا يا سيّد الأحرار يا رمزَ الإبا لولاكَ ما وجد الزمانُ موحّدا شيّدتَ دينَ محمّدٍ وأقمتَه لمّا سللتَ على الضلالِ مُهنّدا وبذلتَ ما ملكتْ يَدَاكَ لنصـره حتّى استوى رَغمَ العدوّ مُشيّدا تاللهِ لا ننساكَ يا ابنَ المُصطفى فوقَ الصَّعيدِ مُبضّعاً ومُجرَّدا رضوا بجُردِهُمُ قِراكَ وأضرموا ناراً بأخبيةِ المكارمِ والنَّدى قَتَلوكَ ضمآناً كأن لم يعلموا قتلوا بقتلِكَ في الطفوفِ مُحمّدا وسبوا إليكَ كرائماً سبيَ الإما للشام في ركبٍ به الحادي حدا ولمجلسِ الطاغي جُلبن حواسراً يَندُبنَ يا جدّاه ما بين العدا[142] |
|
طبيت والديوان والناس يهود ونصارى وكفر وأرجاس متّجمعه من كلّ الأجناس |
|
صاحوا يا زينب وين عبّاس |
||
****
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾[143].
القرآن الكريم دستور متكامل، وكتاب هداية، يأخذ كلّ قارئ له بما يستوعبه عقلُه، ويُحيط به فهمُه، ففيه العبارة، ولديه الإشارة، وفي طياته اللطائف، وفي أعماقه الحقائق.
فقد يدرك البعضُ منه الأكثرَ، وقد يُدركُ القليلُ منه الكثيرَ، ولكن يحيط بفهمه مَن كان عِدلاً وترجماناً له، وهم مَن أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا[144]، فإنّه لا يمسّه إلّا المطهرون[145]، ولا يصل إلی حقائقه وفهمه المذنبون والمغفّلون والظالمون، بل العلم والحفظ لا يؤتاه عاصي، كما في آداب المتعلّمين[146].
ومن هنا روي عن الإمام الصَّادق× أنَّه قال: «كتاب الله} على أربعة أشياء: على العبارة، والإشارة، واللطائف، والحقائق، فالعبارة للعوام، والإشارة للخواص، واللطائف للأولياء، والحقائق للأنبياء»[147].
وقد اشتملت هذه الآية المباركة على أكثر هذه الأشياء الأربعة، التي أشار إليها الإمام أبو عبد الله الصَّادق×.
والخطاب في هذه الآية موجّه للمؤمنين: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا...﴾، وأمرَهم أن يتَّقوه ويجتنبوا معاصيه، ويبتغوا إليه الوسيلة ويجاهدوا في سبيله لأجل الفلاح، فالآية مشتملة على أوامر ثلاثة: (التقوى، وابتغاء الوسيلة، والجهاد في سبيله) وبما أنّ كلَّ واحدةٍ من هذه الثلاث تحتاج إلی بحثٍ مفصّل، سأقتصر في حديثي هنا على واحدة فقط، مع الإشارة إلی إرتباطها بالاثنتين، والواحدة هي الوسيلة والتوسّل وابتغاؤها الذي أمرنا به القرآن الكريم.
الوسيلة لُغةً
قال الجوهري: «الوسيلة ما يُتقرّب به إلی الغير، والجمع الوسيل والوسائل، والتوسّل واحد، يُقال: وسل فلان إلی ربّه وسيلةً، وتوسّل إليه بوسيلة، أي: تقرّب إليه بعمل»[148].
وفي لسان العرب: «الوسيلة: المنزلة عند الله، والوسيلة الدرجة، والوسيلة القربة، ووسل فلان إلی الله وسيلةً إذا عمل عملاً تقرّب به إليه، والواسل الراغب إلی الله»[149].
فالوسيلة تشبه الذريعة إلّا أنّه يوجد بينهما فرق.
قال في الفروق اللغوية:
«الفرق بين الوسيلة والذريعة: أنّ الوسيلة عند أهل اللغة هي القربة، وأصلها من قولك: سألت أسأل، أي: طلبت، وهما يتساولان أي: يطلبان القربة التي ينبغي أن يُطلب مثلها، وتقول: توسّلت إليه بكذا، فتجعل كذا طريقاً إلی بغيتك عنده، والذريعة إلی الشيء هي الطريقة إليه، ولهذا يُقال: جعلت كذا ذريعة إلی كذا، فتجعل الذريعة هي الطريقة نفسها، وليست الوسيلة هي الطريقة، فالفرق بينهما بيّن»[150].
وكلام أهل اللغة لا يخرج عن هذا المعنى في بيان الوسيلة، وما ذكرته خلاصة ما يمكن أن يقال في الوسيلة لغةً.
الوسيلة اصطلاحاً
وأمّا الوسيلة عند المفسّرين في الآية المباركة ـ بعد اتفاقهم على أنّه شيء يُتوصل به إلی الله ـ فقد وقع الخلاف في بيانها على أقوال:
القول الأول: أنّ المقصود من الوسيلة في الآية المباركة محل البحث، وفي الآية الأُخرى التي وردت فيها هذه المفردة، وهي قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ﴾[151] هو القربة، ولعل هذا مشهور مفسِّري الجمهور، كالطبري[152] والسمرقندي[153] والسمعاني[154] وصاحب زاد المسير[155] في أحد قوليه، والحاكم في المستدرك[156].
والذي يؤاخذ على هؤلاء أنّهم لم يفسّروا الماء ـ بعد الجهد ـ إلّا بالماء؛ فإنّهم لم يزيدوا على بيان الوسيلة شيئاً، فما هذه القربة التي يُتقرَّب بها إليه}، فهل هي الصلاة، أم الصوم، أم ماذا؟
وعلی سبيل المثال، فالطبري قال ما نصّه: «واطلبوا القربة إليه بالعمل بما يرضيه»[157]، ولعلّه يقصد كلّ ما يرضيه، وحينئذٍ يكون قوله كالقول الثاني الآتي.
القول الثاني: أنّ المقصود بالوسيلة الواردة في القرآن الكريم، هو: كلّ شيء يُتوسّل به إلی الله من قرابةٍ أو صنيعة أو غير ذلك، كما نصّ عليه النسفي في تفسيره[158].
والأمر حينئذٍ يكون واضحاً من دونِ حاجةٍ للإكثار من ذكر المصاديق، فعلى هذا القول كلّ ما يمكن التقرُّب بهِ إلی الله، من صلاة، أو صيام، أو تقوى، أو ترك غِيبة، أو إحسان وما شاكل ذلك، فهو من الوسيلة التي أمر بها الله.
قال الراغب الأصفهاني: «وحقيقة الوسيلة إلی الله تعالى مراعاة سبيله بالعلم والعبادة، وتحرّي مكارم الشّريعة، وهي كالقربة، والواسل الراغب إلی الله تعالى»[159].
وقال ابن عربي في تفسيره: ﴿ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ بالتزكية، ﴿وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ﴾ بالتحلية، ﴿وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ﴾ بمحو الصفات والفناء بالذات ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ من ظهور بقايا الصفات والذات[160].
القول الثالث: شخصُ النبيّ الأكرم’ أو الإمام المعصوم×، وقد دلّت على ذلك روايات من الفريقين.
منها: ما ذكره في الإنصاف، قال: «قال الإمام أحمد للمروزي: يتوسّل بالنبيِّ’ في دعائه، وجزم به في المستوعب وغيره، وجعله الشيخ تقي الدين كمسألةِ اليمين به، قال: والتوسّل بالإيمان به، وطاعته ومحبّته، والصلاة والسلام، وبدعائه وشفاعته، ونحوه، ممّا هو من فعله أو أفعال العباد المأمور بها في حقّه، مشروع اجماعاً، وهو من الوسيلة المأمور بها في قوله تعالى: ﴿آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ﴾[161].
ومنها: ما في العهود المحمديّة، عن عائشة، قالت: «فمفتاح قضاء الحاجة الهدية بين يديها، فإذا حمدنا الله تعالى رضي عنّا، وإذا صلّينا على النبيّ صلى الله عليه[وآله] وسلم شفع لنا عند الله في قضاء تلك الحاجة، وقد قال تعالى: ﴿آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ﴾.
وتأمّل بيوت الحُكّام [ والكلام لصاحب العهود المحمدية ] تجدها لا بدّ لك فيها من الواسطة الذي له قرب عند الحكّام، وإدلال عليه؛ ليمشي لك في قضاء حاجتك، ولو أنّك طلبت الوصول إليه بلا واسطة لم تصل إلى ذلك.
وإيضاح ذلك: أنَّ مّن كان قريباً من الملك، فهو أعرف بالألفاظ التي يخاطب بها الملك، وأعرف بوقت قضاء الحوائج، ففي سؤالنا للوسائط سلوك للأدب معهم، وسرعة لقضاء حوائجنا، ومن أين لأمثالنا أن يعرف أدب خطاب الله}. إذا سألتم الله حاجة فاسألوه بمحمد صلى الله عليه [وآله] وسلم وقولوا: اللَّهُمَّ إنا نسألك بحقّ محمد أن تفعل لنا كذا وكذا، فإنَّ لله مَلَكاً يبلغ ذلك لرسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم ويقول له: إنَّ فلانا سأل الله تعالى بحقّك في حاجة كذا وكذا، فيسأل النبيَّ صلى الله عليه [وآله] وسلم ربه في قضاء تلك الحاجة فيجاب؛ لأنَّ دعاءَه صلى الله عليه [وآله] وسلم لا يُردّ. قال: وكذلك القول في سؤالكم الله تعالى بأوليائه، فإنَّ الملَك يبلغهم فيشفعون له في قضاء تلك الحاجة»[162].
ومنها: ما في مجمع البيان عنه’ أنّه قال: «سلوا الله الوسيلة، فإنّها درجة في الجَنّة لا ينالها إلّا عبد واحدٌ، وأرجو أن أكون أنا هو»[163].
ومنها: ما أخرجه البخاري من أنَّ عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقوا بالعباس بن عبد المطلب، فقال: «اللهم إنا كنّا نتوسّل إليك بنبينا صلى الله عليه [وآله] وسلّم فتسقينا، وإنّا نتوسّل إليك بعمِّ نبينا فاسقنا. قال: فيُسقون». وعلّق عليه ابن حجر في فتح الباري قائلاً: «ويستفاد من قصّة العبّاس استحباب الإستشفاع بأهل الخير والصلاح، وأهل بيت النبوّة»[164].
وروى الشّيخ الصّدوق& عن الإمام الباقر× رواية تنهى عن سؤال الحاجة من المخالفين، وقد علّل الإمام× ذلك بقوله: «لا تسألوهم الحوائج؛ فتكونوا لهم الوسيلة إلی رسول الله يوم القيامة»[165].
وأمّا الروايات الواردة في خصوص طرقنا في معنى الوسيلة، وأنّها الإمام المعصوم×، فهي كثيرةٌ، ووردت بألسن متعددة.
منها: ما عن رسول الله’: «نحن الوسيلة إلی الله»[166].
منها: ما ورد بلسان أمير المؤمنين× «أنا وسيلته»[167].
ومنها ما ورد في بعض الأدعية والزيارات، كما في قوله×: «وجعلْتَهُم الوسيلةَ إلی رضوانِكَ»[168]، أو «وجعلْتَهُم الذرائعَ إليكَ، والوسيلةَ إلی رضوانِكَ»[169] كما في دعاء الندبة.
وفي دعاء الإمام السّجاد× في عرفة: «وجعلْتَهُم الوسيلةَ إليكَ، والمسلكَ إلی جنّتكَ»[170].
ولنِعمَ ما قال الشاعر:
آلُ النبيّ ذريعتي وهُم إليهِ وسيلتي |
ورحم الله السيّد الحميري حيث يقول:
وإذا الرجال توسّلوا بوسيلةٍ فوسيلتي حبّي لآل محمدٍ[172] |
ويكفيك إذعاناً بذلك مراجعة سبب نزول قوله تعالى: ﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾[173]، فالمروي عن المعصوم× أنّها نزلت في أبي لُبابة بن عبد المنذر، وكان رسول الله’ لمّا حاصر بني قريظة، قالوا له: ابعث إلينا أبا لبابة نستشيره في أمرنا، فقال رسول الله’: «يا أبا لُبابة، أئتِ حلفاءَك ومواليك» فأتاهم، فقالوا له: يا أبا لُبابة، ما ترى ننزل على حكم محمّد؟ فقال: أنزلوا واعلموا أنَّ حكمه فيكم هو الذبح! وأشار إلی حلقه، ثمَّ ندم على ذلك، فقال: خنتُ الله ورسوله، ونزل من حصنهم، ولم يرجع إلی رسول الله’، ومرّ إلی المسجد، وشدَّ في عُنقِهِ حبلاً، ثمَّ شدّه إلی الإسطوانة التي تُسمّى إسطوانة التوبة، وقال: لا أحلّه حتّى أموت، أو يتوب الله عليّ، فبلغ رسول الله’ فقال: «أمّا لو أتانا لاستغرفنا الله له، فأمّا إذا قصد إلی الله ربه فالله أولى به». وكان أبو لبابة يصوم النهار ويأكل بالليل ما يمسك به رمقه، فكانت ابنته تأتيه بعشائه، وتحلّه عند قضاء الحاجة، فلمّا كان بعد ذلك ورسول الله’ في بيت أُمّ سلمة، نزلت توبته، فقال: «يا أُمّ سلمة، قد تاب الله على أبي لبابة»، فقالت: يارسول الله، أفأوذنه بذلك؟ فقال: لتفعلِن، فأخرجت رأسها من الحجرة، فقالت: يا أبا لبابة، أبشر! قد تاب الله عليك، فقال: الحمد لله، فوثب المسلمون ليحلّوه، فقال: لا والله، حتّى يحلّني رسول الله، فجاء رسول الله’ فقال: «يا أبا لبابة، قد تاب الله عليك توبةً لو ولدت من أُمّك يومك هذا لكفاك»[174].
هذا ؛ لأنَّ أبا لبابة لم يقتل نبيّاً، ولاحجةً من حجج الله، وإلّا لما قُبِلت توبته؛ لما روي في الكافي الشريف: «... فأمّا ما يجب فيه النار فرجلٌ يقصد لرجل مؤمن من أولياء الله فيقتله على دينه متعمّداً، فقد وجبت فيه النار حتماً وليس له إلى التوبة سبيلٌ، ومثل ذلك مثل مَن قتل نبياً من أنبياء الله عزَّ وجل، أو حجّة من حجج الله على دينه، أو ما يقرب من هذه المنازل فليس له توبة...»[175].
والذين تكاثروا على الإمام الحسين× فقتلوه، لم يكتفوا بقتله فحسب، بل مثّلوا بجسده الطاهر، وسبوا عياله من بلدٍ إلى بلد، وكأنّي بالحوراء زينب‘ تنادي أُمّها فاطمة‘:
يا فاطمة يمّ الميامين يلگبرچ خفي ما يندره وين أخبرچ بالجره والصار بحسين ظل علثره من غير تكفين وعبّاس البطل مگطوع الايدين واتسلّبت كلّ النساوين |
||
|
وأنــا ادخــلـت يــمّــه الـدواويــن |
|
حكمُ المنيّةِ في البريةِ جاري ما هـذه الدُنيـا بـدارِ قـرارِ بينا يُرى الإنسانُ فيها مُخبـراً حتّى يُرى خبراً مِنَ الأخبارِ طُبعتْ على كَدَرٍ وأنتَ تُريدُها صفـواً من الأقذاءِ والأكـدارِ ومكلّفُ الأيامِ ضـدَّ طبـاعِها متطلبٌ في الماءِ جذوةَ نارِ وإذا رجوتَ المستحيلَ فإنّما تبني الرجاء على شفيرٍ هارِ فالعيشُ نومٌ والمنيّةُ يقظةٌ والمرءُ بينهما خيالٌ سـارِ والنفس إنْ رضيتْ بذلك أو أبتْ منقـادةٌ بأزمّةِ الأقـدارِ إيِّاك أن تغترَّ بالدهر الـذي أودى بآل المُصطفى الأبرارِ نُحرت نحورُهم بعرصة كربلا عطشاً وماء النهر فيها جاري أبكيهم تحت العَجاج وبينهم ثاوٍ شبيهُ المصُطفى المُختـارِ لم أنسَهُ والسبطُ جاثٍ حولَه يدعو بدمعٍ هـاطـلٍ مـدرارِ يا كوكباً ما كان أقصـرَ عُمـره وكذا تكونُ كواكبُ الأسحارِ عجل الخسوفُ عليهِ قبلَ أوانه فطواه قبـلَ مظنّةِ الإبدارِ فكأنَّ قلبي قبره وكأنّـه في طيّهِ سرٌ من الأسرارِ جاورتُ أعدائي وجاور ربّه شتان بينَ جوارهِ وجـوارِِ[176] |
(أبوذية)
شـافه والنبـل نابـت عليّ راح گعد عنده وصفگ راح على راح |
***
قال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾[177].
هو حبس النفس عمّا تُحب وترك الجزع عندما تكره. وهو أيضاً تحمّلُ الإنسان لحالة حدثت له تستدعي فيه التحمّل والهدوء، ومعالجة الأُمور بتعقّل ولو طالت مدّة هذه الحالة.
مثل تحمّل المريض لمرضه، وصاحب المصيبة لمصيبته، وأيضاً تحمّل الإنسان لترك الذنوب، وتحمّل البقاء على شكر الله عند حصول النعمة، والاستمرار في طاعته وعدم معصيته.
والصبر من فروع الرضا بقضاء الله وقدره، وهو من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، وضده الجزع الذي هو عدم الصبر على البلاء.
وقد قُسّم الصبرُ إلى أقسامٍ وأنواع منها:
بمعنى أن يتحمّل المداومة التي تحتاجها الطاعة، فترى البعض من الناس ليس عنده القدرة على تحمّل ركعتي صلاة الصبح، بل أكثر من ذلك، البعض لا يستطيع أن يتحمّل الزمان الذي يستغرقه الآذان أو تستغرقه الإقامة.
حُكي أنّ أحد الولاة ـ ولعلّه معاوية بن يزيد بن معاوية ـ سمع أحدَ الرعيّة يدعو عليه بالهلاك، ويقول: اللَّهُمَ خلّصنا منه. فخرج هذا الوالي، وقال لـه: عَلامَ أنت تدعو عليَّ وأنا لم يكن لي معكم إلّا بعض الأيام، فما لكم قد مللتموني؟!
قال الرّجل: أيّها الوالي! إنني أبتدأ بالأذان وأشرع حتّى إذا بلغت وسطه مللتُ فقطعته[178].
فهذا نموذج من الناس تراهم ليس لهم القابلية على تحمّل أبسط الأُمور، وهذه الحالة تعتري الكثير من بني البشر.
فالصبر على المداومة على الطاعة ـ بالحقيقة ـ هو صبر على النعمة التي أنعم الله بها على الإنسان؛ بأن يصبر على الشكر لصاحب النعمة، وهو الله فيسير في طريق الإستقامة، فيصبر على الطاعة كما يصبر على أن لا يعصي خالقه، ويستمر في العبادة والصلاة لوقتها وصوم شهر رمضان وغير ذلك، وهو بتوفيق الله تعالى والمداومة يصبح يسيراً، وعن الإمام أمير المؤمنين×: «إنِّا وجدنا الصّبرَ على طاعةِ الله أيسرَ من الصّبرِ على عذابه»[179].
بأن يصبر أن لا يغتاب، ولا يكذب، ولا يتكبّر، ولا يرتكب المحرّمات، وغيرها، فعن الإمام أمير المؤمنين× أنّه قال: «اصبروا على عملٍ لا غنى لكم عن ثوابه، واصبروا على عملٍ لا طاقة لكم على عِقابه»[180].
وهذا النوع من الصبر من الأنواع التي تحتاج إلى المجاهدة والرياضة النفسية العالية، حتّى قيل: إنّ الصبر على عدم المعصية أفضل من كلّ مراتب الصبر[181].
وهذا هو محل الكلام، فكلّ إنسان يُعاني من هذه الأُمور، فإنْ أراد الراحة في الدنيا والثواب في الآخرة، فعليه أن يصبر ويسلّم أمره إلى الله، ويتوكّل عليه ويرضى بقضاء الله وقدره، ويحاول أن يعالج البلاء بتعقُّل وهدوءٍ.
فعن الإمام الباقر× أنّه قال: «الجَنّةُ محفوفةُ بالمكاره والصبر، فمَن صبر على المكاره في دار الدنيا دخل الجَنّة، وجهنم محفوفة باللَّذات والشهوات، فمَن أعطى نفسَه لذّتَها وشهوتَها دخل النار»[182].
ولوتأمّلنا في الآيات التي افتتحنا بها المحاضرة، نلاحظ عدّة امتحانات وبأشكال مختلفة، فتارةً يكون الامتحان عن طريق الخوف، وأُخرى عن طريق الجُوع، وثالثة عن طريق النقص في الأموال والأنفس من خلال الموت وما شاكله، فالآية تعرّضت للاختبار الإلهي العام، ولمظاهره المختلفة، باعتباره سُنّة كونية لا تقبل التغيير، وكما كان الانتصار في هذه الاختبارات لا يتحقّق إلّا في ظل الثبات والمقاومة، قالت الآية بعد ذلك: (وبشّر الصابرين)، فالصابرون هم الذين يستطيعون أن يخرجوا منتصرين من هذه الامتحانات لا غيرهم.
ثُمَّ الآية التي بعدها تُعرِّفُ الصابرين، وتقول: ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾، فالإقرار التامّ بالعبودية المطلقة لله يعلّمنا أن لا نحزن على ما فاتنا؛ لأنّه سبحانه مالكنا ومالك جميع ما لدينا من مواهب، إن شاء منحنا إيّاها، وإن استوجبت المصلحة أخْذَها سَلَبَها مِنّا، وفي المنحة والمحنة مصلحة لِنا.
والالتفات المستمر إلى حقيقة عودتنا إلى الله سبحانه وتعالى، يشعرنا بزوال هذه الحياة، وبأنَّ نقص المواهب المادية وتوفرها عَرض زائل، ووسيلة لارتقاء الإنسان إلى سُلّم تكامله، فاستشعار العبودية والعودة في عبارة (إنا لله وإنا إليه راجعون) له الأثر الكبير في تعميق روح المقاومة والاستقامة والصبر في النفس[183].
ومن الواضح أنَّ المقصود من قول هذه العبارة ليس ترديدها باللسان فقط، بل استشعار هذه الحقيقة، والالتفات إلى ما تنطوي عليه من توحيد وإيمان[184].
وقد يسأل سائل: لماذا هذا الاختبار الإلهي وبأشكاله المختلفة؟ من عادتنا نحن البشر أن نختبر الأفراد؛ لنفهم ما نجهله عنهم، فهل الله سبحانه وتعالى بحاجة إلى مثل هذا الاختبار لعِباده، وهو العالم بكلّ الخفايا والأسرار؟! وهل هناك شيء خَفِيَ عنه سبحانه وتعالى حتّى يظهر له من خلال ذلك؟!
والجواب: إنّ مفهوم الاختبار الإلهي يختلف عن الاختبار البشري؛ لأنَّ اختبارات البشر بعضهم للبعض الآخر غايتها ـ كما ذُكر آنفاً ـ لرفع الإبهام والجهل، وأمّا الاختبار الإلهي فالأمر فيه ليس كذلك، بل المقصود منه التربية.
فالاختبار الإلهي يشبه عمل مُزارعٍ خبيرٍ، ينثر البذور الصالحة في الأرض الصالحة؛ كي تستفيد هذه البذور من مواهب الطبيعة، وتبدأ بالنمو، ثُمَّ تصارع هذه البذور كلّ المشاكل والصعاب بالتدريج، وتقاوم الحوادث المختلفة كالرياح العاتية، والبرد الشديد، والحرّ اللاّفح؛ لتخرج بعد ذلك نبّتة مزهرة أو شجرة مثمرة، تستطيع أن تواصل حياتها أمام الصعاب.
وهذا هو سرّ الاختبارات الإلهية، فقد قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾[185]، فمع أنّه تبارك وتعالى عليم بذات الصدور، ولا تخفى عليه خافية في السموات ولا في الأرض، وما تسقط من ورقة ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلّا وهو تعالى مطّلع عليه وحاضر لديه، إلّا أنّه يبتلي عباده لا ليفهم ويطّلع، بل ليربي ويروّض.
ومن هنا يقول أمير المؤمنين× في نهج البلاغة مبيِّناً سبب الاختبارات الإلهية «... وإن كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم، ولكن لتظهر الأفعال التي بها يُستحقُ الثواب والعقاب»[186]، أي أنّ الصفات الكامنة لا يمكن أن تكون وحدها معياراً للثواب والعقاب، فلا بدَّ أن تظهر من خلال أعمال الإنسان، والله يختبر عِباده؛ ليتجلّى ما يضمرونه في أعمالهم، ولكي تنتقل قابليّاتهم من القوّة إلى الفعل، وبذلك يستحقّون الثواب أو العقاب.
فإذا صبر الإنسان على ما ابتلاه به الله تبارك وتعالى من خوف، أو جوعٍ، أو نقصٍ في الثمرات، أو الأنفس، أو غير ذلك، أعطى الصبرُ نتائجَه؛ لأنّ لكلّ زرعٍ ثمراً، ولكلّ فعل ردَّ فعل.
وأوّل نتائج الصبر هذا هو ما ذكرته الآية الأخيرة من الآيات التي صدّرنا بها المحاضرة، وهي قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾، هذه الصلوات والرحمة تجعل هؤلاء على بصيرةٍ من أمرهم، في مسيرتهم الحياتية المحفوفة بالمزالق والأخطار؛ لذلك تقول الآية: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾[187].
والنتيجة الثانية المترتبة على الصبر هي: الراحة في دار الدنيا، والثواب العظيم في الآخرة.
والنتيجة الثالثة هي: حبّ الله تبارك وتعالى للصابرين، حيث قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾[188].
والنتيجة الرابعة هي: كون الله تبارك وتعالى معهم، إذ قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾[189].
والنتيجة الخامسة هي: التحيّة والسلام من الله، قال تعالى: ﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾[190].
وهذا فيض من غيضٍ، وقطرة من بحر متلاطم، من النتائج المترتّبة على التمسُّك بالصبر، وإلّا فالآياتُ عديدة، والروايات كثيرة وكثيرة جداً في الصبر وأجره وما أعدَّه الله للصابرين، ممّا قد يخرج عن حدّ الإحصاء.
لقد روي أنّ نبيّ الله عيسى×: «مرَّ برجلٍ أعمى وأبرص ومقعد، مضروب الجنبين بالفالج، قد تناثر لحمه من الجذام، وهو يقول: الحمد لله الذي عافاني ممّا ابتلى به كثيراً من خلقه. فقال لـه نبيّ الله عيسى×: يا هذا، وأيّ شيء من البلاء تراه مصروفاً عنك؟ فقال: يا روح الله، أنا خير ممَّن لم يجعل الله في قلبه ما جعل في قلبي من معرفته، فقال: صدقت، هات يدك. فناوله يده، فإذا هو أحسن الناس وجهاً، وأفضلهم هيئةً، قد أذهب الله عنه ما كان به»[191].
هذا الرجل الذي سمعتم حكايته كان يحمد الله على معرفته به، ولكن مِنَ المقطوع به أنّه لم يُصب كما أصاب الدهر أبا عبد الله الحسين×، صاحب المصيبة والرزية العظمى، حيث ورد عنه× أنّه قال بعد أن تفاقم الخطب أمامه في كربلاء، واستُشهد أصحابه وأهل بيته: «هوّن عليّ ما نزل بي أنّه بعين الله»[192].
ما أعظمكم يا آل مُحَمّدٍ! انظروا ما يقول: بأبي وأُمّي: إنَّ الذي خفّف عليَّ هذه المصائب، وهذه الرزايا والمحن كونها في منظر الله تبارك وتعالى، فهو يعلم بها، ويحتسبها عنده ليومٍ لا ريب فيه.
ولكن يقول كما يقول جدّه المصطفى’: «العين تدمع، والقلب يحزن... وإنّا بفراقِك يا إبراهيم لَمحزونون»[193]، وكذلك: وإنّا بفراقك يا عليّ الأكبر لمحزونون، وخاصّة أنّه أشبه الناس خَلقاً وخُلقاً ومنطقاً بالنبيِّ الأعظم’، فالحسين يوم عاشوارء ـ بالحقيقة ـ فقد النظر إلى رسول الله’، وهذا ما يعظّم الخطب.
ولذا قالوا: إنّ أبا عبد الله الحسين× صار في حالة احتضار عند مصرع ولده عليّ الأكبر، زينب تعلم بأنّه إذا بقي الحسين عند مصرع ولده علي واضعاً خدَه على خدِه سوف تفارق روحه الدنيا، فأرادت زينب‘ أن تحافظ على حياة أخيها الحسين، وأن تشغله عن مصيبة ولده؛ لذا خرجت من الخيمة تنادي وا علياه وا نورَ بصراه وا ثمرة فؤاداه، لمّا سمع الحسين صوت زينب قام إليها قائلاً: أُخيه زينب ارجعي إلى الخيمة، لا تُشمتي بنا الأعداء، فرجعت‘، ولكن لمّا جيء به إلى الخيمة أقبلت حتّى رمت بنفسها على جسده، وهي تنادي: وا علياه.
هوت فوگه تحـب خـدّه وتشمـه وغدت تصبغ وجهها إبفيض دمه |
بعد ذلك جاءت إليه أُمُّه ليلى ـ بعدما أتوا به إلى المخيم ـ وقعت عليه، احتضنته، وهي تشمّه وتضمّه، وأحاطت به عمّاته وأخواته يبكينه ويندبنه، وكذلك حضر والده الحسين×، وكأنّي به يخاطب ولده الأكبر×:
يبـويه إشلـون ما تبچي الزچيـه اوگطع يبني الدهر وصلك عليَّ |
أمّا أُمّه ليلى فكأنّي بها تخاطبه:
گلبي ابيا سبب يبني وداعي تصد عنّي اولا تسمع وداعي |
يا كوكباً ما كان أقصـرَ عمره وكذا تكون كواكب الأسحارِ |
خـانَ الزمـانُ بنا فشتتّنا كما خانت بنو صخرٍ ببيعةِ (مُسلمِ) لم أنسـَهُ بينَ العِـدى وجبينُه كالبدرِ في ليلِ العَجاج المظلمِ أفديهِ من بطلٍ مهيبٍ إنْ سطا لفَّ الجمـوعَ مؤخّـراً بمقـدّمِ شهمٌ دعته إلى البسالة هـاشمٌ والشبلُ للأسدِ المجرّب ينتمي حتّى إذا مـا أثخـنـوه بالضُّـبا ضرباً وفي وسط الحفيرة قد رُمي جاءوا إلى ابن زياد فيه فمُذْ رأى للقصْـر قـد وافاهُ غـير مُسلّمِ قال اصعدوا للقصرِ وارموا جسمَه ومـن الوريـدين اِخضبـوه بالدّمِ صعدوا به للقصـر وهو مكبّـلٌ تجري دماهُ من الجوارحِ والفمِ قتـلوه ظـامٍ لم يبل فـؤادَه أفديهِ من ظامِ الحشا متضـرّمِ دفعـوه من أعلى الطّمار إلى الثـرى فتـكسّرت منه حنايا الأعـظمِ[194] |
يمسلم وين ذاك اليوم عبّاس يجيك بشيمته ومفـرّع الراس |
(أبوذية)
عدوك چيف يا مسلم تجـاره ابحبل جسمك يشدونه تجاره |
***
قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾[195].
إنّ الغاية من خلق السماوات والأرَضين وجميع المخلوقات، هي العبادة والخضوع للخالق العظيم بنيّةٍ خالصةٍ عن طريق معرفته.
ومن أهمِّ الأسئلة التي تختلج في صدر كلّ إنسان: لِمَ خُلقنا؟! وما الهدفُ من خلق الناس، والمجيء إلى هذه الدنيا؟!
لا شكّ أنّ كلّ فردٍ عاقلٍ وحكيمٍ حين يقوم بعمل ما فإنّما يهدف من وراء عمله إلى هدف معيّن، فكيف بالله تعالى، وهو الحكيم العليم الذي لا ينبغي قياسه بأيّ شيءٍ، ما هو هدفه من خلق الإنسان؟!
فهل كان يشعر بنقصٍ ـ أعوذ بالله ـ فارتفع ذلك النقص بخلق الإنسان؟!
أوكان محتاجاً ـ نستجير به تعالى ـ إلى شيء فارتفع الاحتياج بخلقنا؟!
وعليه فلا بدّ لله تبارك وتعالى من هدف؛ لأنّه سيّد العقلاء ولا يخلق شيئاً عن عبث، فلا بدّ من هدف لله تبارك وتعالى وراء خلقه للإنسان.
وبحكم كونه تبارك وتعالى يمثل الكمال المطلق، وليس هناك من شيء يزيده أو ينقصه، لزم أن يكون الهدف عائداً للإنسان نفسه.
فما هو الهدف إذن؟
الهدف هو ما صرّحت به الآية المباركة، وهو العبودية، عبودية الإنسان الناقص للكامل المطلق، عبادة المحدود للاّمحدود.
إلّا أنّنا لو تأمّلنا في بعض الآيات القرآنية الأُخرى، لرأينا أنّها تشير إلى أهداف أُخرى، ففي بعضها يصرّح القرآن الكريم بأنّ الهدف من الخلق هو الامتحان.
كما جاء في قوله تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾[196].
وفي آية أُخرى نجد أنَّ الهدف من خلق الإنسان هو حتّى يعلم بقدرة الله تبارك وتعالى وعلمه.
كما في قوله تعالى: ﴿خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾[197].
وآية ثالثة تشير إلى أنّ الهدف من الخلق هو الرحمة ـ رحمة الله ـ. قال تبارك وتعالى: ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾[198].
وأمّا الآية التي هي محل البحث فهي ـ كما ذكرنا ـ صريحة بأنَّ الهدف من خلق الله تبارك وتعالى للإنسان هو العبادة، بل إنّها تحصر علّة وسبب الخلق في العبادة، فما هو الوجه في الحصر، ونحن نجد الآيات الأُخرى تذكر أسباباً أُخرى هي السبب في الخلق، وخاصّة الآية الثالثة فهي صريحة جداً في تعيين سبب الخلق، حيث قال تعالى: ﴿وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾.
ولو تأمّلنا قليلاً في مفهوم هذه الآيات وما شابهها نرى أنّه لا تضاد ولا اختلاف بينها، ففي الحقيقة بعضها تشير إلى هدف مُقدّمي، وبعضها إلى هدف متوسط، وبعضها إلى هدف نهائي، وبعضها إلى النتيجة.
فالهدف الأصل هو(العبودية)، وهو ما أُشير إليه في الآية التي هي محل البحث، أمّا العلم والامتحان وأمثالهما فهي أهداف ضمن مسير العبودية لله، ورحمة الله الواسعة نتيجة العبودية لله تبارك وتعالى.
وهكذا يظهر لنا بكلّ وضوح أنّنا خُلقنا لعبادة الله تبارك وتعالى، لكنَّ المهم أنّ نعرف ما هي حقيقة هذه العبادة؟!
فهل المراد منها أداء المراسم أو المناسك اليوميّة وأمثالها من صوم وصلاة إلى غير ذلك؟ أو هي حقيقة وراء هذه الأُمور وإن كانت المناسك كلّها واجدة للأهميّة؟!
وللإجابة على هذا السؤال ينبغي معرفة معنى كلمة (العبد) و(العبودية) وتحليلها، فالعبد لغةً: هو الإنسان المتعلّق بمولاه وصاحبه من قَرنه إلى قدمه، وإرادته تابعة لإرادته، وما يطلبه ويبتغيه تبع لطلب سيده وابتغائه، فلا يملك في قباله شيئاً، وليس لـه أن يُقصّر في طاعته[199].
وهذا مفهوم عام يشمل حتّى العبيد مع مواليهم العرفييّن؛ ولذا يُذكر أنَّ عبداً شاهد مولاه مهموماً، فقال هذا العبد ـ وكان مؤدبّاً وعاقلاً ـ لمولاه: لماذا أنت مهموم؟
قال المولى: إنّي مديون والتفكير في الديون سلبني الراحة، فقال الغلام: حسناً، خذني إلى سوق الرقيق، وأعرضني للبيع وبثمني سدد ديونك.
قال: إنّ لديَّ قروضاً كثيرة وثمنك لا يكفي لعُشْر قروضي.
قال الغُلام: سعّرني بنفس المقدار الذي أنت مدين به.
قال المولى: إنّهم لا يشترونك بهذا السعر، قال الغلام: قل للزبائن إنّ هذا الغلام لديه صفة حسنة جداً وارتفاعُ سعره ناجم عن حيازته تلك الصفة، و هي أنّه يعرف جيّداً أسلوب العبودية.
جاء المولى بالغلام ـ ولم يفهم مقصود الغلام جيداً ـ إلى سوق الرقيق، وسعّره بسعرٍ يعادل عشرة أضعاف سعره الطبيعي، مثلاً إذا كان السعر المتعارف لهذا الغلام عشرة آلاف دينار كان يقول إنّي أبيع هذا الغلام بمئة ألف دينار. وكان كلّ مَن يسمع ذلك يضحك، إلى أن سأله إنسان عاقل عن سبب ارتفاع سعر الغلام.
قال المولى: إنّ ارتفاع سعر الغلام يرجع إلى أنّه يعرف طريقة العبودية جيداً.
قال الرجل: إذا كان كما تقول فقيمتُه أكثر من ذلك، إني اشتري هذا الغلام بشرط هذه الصفة، وإذا لم أجدها فيه يحقّ لي فسخ المعاملة.
وخلاصة الأمر: دفع هذا الرجل المبلغ وهو مئة ألف دينار، وأخذ الغلام للبيت، ومن أجل أن يعلم معرفة الغلام طريقة العبودية أمرَ بضربه بالسوط، والغلام لا يبكي ولا يتأوه، ولا يسأل عن سبب ضربه بالسوط!
أمر الرجل بترك الغلام، ثُمَّ قال له: ألم تكن تشعر بالألم؟ قال: نعم، قال: ألم تكن تعلم أنّك تضرب بدون سبب؟ قال الغلام: نعم، قال الرجل: إذن لماذا لم تحتجّ على ذلك؟
قال الغلام: أنا عبد وأنت مولى، ولا يليق أن يسأل العبد عن سبب تصرّفات مولاه، فالعبد يجب أن يكون مطيعاً لمولاه مئة بالمئة، إذا أنعمت عليّ فأنا مطيع لك، وإذا ضربتني بالسوط أنا مطيع لك[200]، وهذا هو معنى العبد والعبودية، فهي تعني منتهى الخضوع والتسليم للمعبود.
والمعبود الوحيد الذي له حقّ العبادة على الآخرين هو الذي بذل منتهى الإنعام والإكرام، وليس ذلك سوى الله سبحانه وتعالى.
ثمَّ إنّ العبادة على أقسام، فمنها: عبادة المحبّين والملتذّين والعارفين إلى غير ذلك من أنواع العبادة التي تختلف باختلاف درجات القُرب من المولى}، ومن هنا قسّم الإمام أمير المؤمنين× العبادة إلى أقسام ثلاثة، قال×: «إنّ قوماً عبدوا الله رغبةً فتلك عِبادة التجار، وإنّ قوماً عبدوا الله رهبةً فتلك عِبادة العبيد، وإنّ قوماً عبدوه شكراً فتلك عِبادة الأحرار»[201].
وللعبادة عدّة شروط مذكورة في محلها، أهمها:
1 ـ النية الخالصة لله: فليس الهدف من العِبادة إرضاء الناس أو الحصول على مكسب دنيوي، بل يعبد الله قربة إلى الله.
2 ـ حضور القلب: فبدون حضور القلب تعتبر العِبادة ناقصة، والطريق إلى إكمالها هو الإتيان بالنوافل، كما أشارت إليه بعض الروايات الشريفة[202].
3 ـ العِلم: فعن الإمام أمير المؤمنين×، أنّه قال: «لا خير في عِبادة لا فقه فيها»[203].
4 ـ الصلاة على محمّد وآل محمّد: فقد ورد أنّ الدعاء محجوب حتّى يصلّي العبد على محمّد وآل محمّد[204].
ومن هنا قال الشافعي:
يا أهلَ بيتِ رسولِ اللهِ حُبُّكُمُ فَرضٌ من اللهِ في القرآنِ أنزلَهُ |
5 ـ اليقين: فعن رسول الله’، أنّه قال: «لا عبادة إلّا بيقين»[206].
فإذا جاء الإنسان بهذه الشروط توقّع من الله حينئذٍ الثمار المترتّبة على العبادة، وأهم هذه الثمرات الفوز بالآخرة والحياة السعيدة المطمئنة الأبدية، وغيرها من الثمرات الدنيوية والأُخروية. وأعبَد عبادِ الله الأنبياء والأوصياء، ثُمَّ الأمثل فالأمثل.
وإذا أردنا أن نتعلّم العبادة وحقيقتها وكنهها، فلا بدّ أن نراجع سيرة أهل البيت^ وأولادهم والذين نشأوا في بيوتهم وتربَّوا في كنفهم.
كانوا يقضون أيامهم بالعبادة، أمّا اللّيل فصافّون أقدامهم تالين لآيات القرآن، وأمّا النهار فصائمون حُلماء أبرار.
ومن هذه البيوت، ومن هؤلاء الذين تغذّوا من ثدي الإمامة وعاشوا في كنفها، مسلم بن عقيل بن أبي طالب×، كان في بيت طوعة، وقُبَيل الفجر جاءت إليه بماءٍ ليتوضأ به قائلةً: يا مولاي ما رأيتك رقدت البارحة ـ حيث قضى تلك الليلة قائماً وقاعداً، راكعاً وساجداً ـ فقال لها: اعلمي أنّي رقدت رقدة فرأيت في منامي عمّي أمير المؤمنين× وهو يقول: الوحى الوحى، العجل العجل، وما أظن إلّا أنّه آخر أيامي من الدنيا.
فتوضّأ وصلّى صلاة الفجر، وكان مشغولاً بدعائه إذ سمع وقع حوافر الخيول وأصوات الرجال، فعرف أنّه قد أُتي إليه، فعجّل في دعائه، ثُمَّ لبس لامةَ حربه، وقال: يا نفس، اخرجي إلى الموت الذي ليس له محيص.
فقالت المرأة: سيدي أراك تتأهب للموت! قال: نعم، لا بدّ لي من الموت وأنتِ قد أدّيتِ ما عليك من البرّ والإحسان، وأخذتِ نصيبكِ من شفاعة رسول الله’، فاقتحموا عليه الدار وهم ثلاثمائة، وقيل: سبعون فارساً وراجلاً، فخاف مسلم أن يحرقوا عليه الدار، فخرج وشدّ عليهم حتّى أخرجهم من الدار، ثُمَّ عادوا إليه، فحمل عليهم وهو يقاتلهم ويقول:
هو الموتُ فاصنع ويكَ ما أنتَ صانعُ فأنت بكأسِ الموتِ لا شكّ جـارعُ |
حتّى قتل منهم واحداً وأربعين رجلاً، وكان من قوّته أنّه يأخذ الرجل بيده فيرمي به فوق البيوت، وبعدما أكثر القتل فيهم، طلب قائد الجيش محمّد بن الأشعث النجدة من عبيد الله بن زياد قائلاً: أدركني بالخيل والرجال، فأنفذ إليه ابن زياد يقول: ثكلتك أُمّك وعدموك قومك. رجل واحد يقتل هذه المقتلة العظيمة! فكيف لو أرسلتك إلى مَن هو أشدّ بأساً؟ ـ يعني الحسين× ـ فأرسل إليه ابن الأشعث يقول: تظنّ أنّك أرسلتني إلى بقّال من بقّالي الكوفة؟ أو إلى جرمقان[207] من جرامقة الحيرة؟ وإنّما وجهتني إلى بطل همام، وشجاع ضرغام، من آل خير الأنام. فأرسل إليه بالعساكر وقال: إعطه الأمان فإنّك لا تقدر عليه إلّا به.
وقد أُثخن مسلم بالجراح لأنّهم أحتوشوه من كلّ جانبٍ ومكان؛ ففرقة ترميه من أعالي السطوح بالنار والحجارة، أُخرى بالسيوف، وثالثة بالرماح، ورابعة بالسهام، وكان قد اشتبك مسلم× مع بكر بن حمران فضربه بكر على فمه الطاهر فقطع شفته العليا، فقال له ابن الأشعث: لك الأمان يا مُسلم لا تقتل نفسك، فقال: أيّ أمانٍ للغدرة الفجرة؟ وأقبل يقاتلهم وهو يقول:
أقسمـت لا أقتـل إلّا حُـرّاً وإنْ رأيتُ الموتَ شيئاً نُكرا |
وكان قد أُثخن بالجراح حتّى عجز عن القتال، فأسند ظهره إلى جنب جدار فضربوه بالسهام والأحجار، فقال: مالكم ترمونني بالأحجار كما تُرمى الكفار؟ وأنا من أهل بيت النبيّ المختار: ألا ترعونَ رسول الله في عترته؟
قال السيد ابن طاووس&: «...وتكاثروا عليه بعد أن أُثخن بالجراح، فطعنه رجل من خلفه فخرّ إلى الأرض، فأُخذ أسيراً»[208].
وقيل: قد حفروا لـه حفيرة فوقع فيها أثناء القتال. هذا وكانت طوعة واقفة وهي تخاطب القوم بلسان الحال:
(بحراني)
ظلت تناديهم يهـل كوفـان أرحـموه
هذا ابن أخو الكرار حيدر لا تسحبوه
خلـوه يمشـي براحتـه گلبـه شعبتـوه
خافوا من الله مالكم مذهب ولا دين
صاحـت يمسلم يا عظمهـا خجلتي بيـك
شبيدي وأنه حرمه وضعيفه مگدر أحميك
لو يتـركـونـك چـنت افـت گـلـبي وداويـك
إنچان اسلمت من كيدهم سلِّم على احسين
گَلها يطوعه اليوم ما تحصل سـلامه
أوصيچ چان ابهل البلد طبو يتامه
گـولي تـره مسلم يبلغكـم سـلامه
واجرچ على الله والنبي سيد الكونين
أركبوه على بغلة، وأخذوه إلى ابن زياد، فجعل يبكي، فقال لـه عبيد بن العباس: إنَّ مَن يطلب مثلَ الذي تطلب إذا نزل به مثل ما نزل بك لم يبكِ.
قال: والله، ما لنفسي بكيت ولكن أبكي لأهلي المقبلين، أبكي للحسين وآل الحسين×.
(نعي مجاريد)
وين الذي يوصل إبهالحين لرض المـدينـة ويخـبر إحسين |
چتفوه أوظل يدير بالعـين
(نصاري)
يمسلـم ريـت لن هاشـم زلمهـا تجي أويخفج على راسك علمها |
***
إنْ كنتَ تحزنُ لاّدكار قتيلِ فاحزن لذكرى مُسلمِ بنِ عقيلِ |
المحاضرة التاسعة: عبادة الحَرْف
أناعيَ قتلى الطّفِ لازلتَ ناعيا تُهيج على طُولِ الليالي البواكيا أعدْ ذكرَهُم في كربلاءِ إنَّ ذكرَهم طوى جزعاً طيَّ السجّل فؤاديا |
|
ودعْ مقلتي تحمرُّ بعدَ ابيضاضها بعَدِّ رزايا تتركُ الدمعَ داميا ستنسى الكرى عَيني كأنَّ جُفونَها حلفن بمَن تنعاهُ أن لا تلاقيا وتُعطي الدموعَ المستهلّاتِ حقَّها محاجرُ تبكي بالغوادي غواديا وأعضاءُ مجدٍ ما توزّعت الضُبا بتوزيعها إلّا الندى والمعاليا لئن فرّقتها آلُ حربٍ فلم تكن لتجمعَ حتّى الحشـِر إلّا المخازيا وممّا يُزيلُ القلبَ عن مستقرّه ويتركُ زندَ الغيظِ للـحشر واريا وقوفُ بناتِ الوحي عند طليقِها بحالٍ بها يُشجين حتّى الأعاديا[210] |
|
من طبّت وشافت الديوان مشحون من كلّ بلد وامچان |
حنّت وسال الدمع وديان
***
قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾[211].
لقد بُعث النبيُّ الأكرم’ إلی مجتمع تسوده عادات كثيرة نابعة من صميم الجاهلية، وتحكمه ثقافات متنوّعة، وأطياف متعدّدة، وألوان يتلوّن بها بحسب المصالح والمفاسد، وليس هذا الأمر على مستوى المجتمع بما هو مجموعة من الأفراد، بل الأمر أساساً كان منعكساً على الفرد بما هو فرد، حتّى على مستوى العقيدة، فضلاً عن المستوى العبادي.
وما هذه الآية الشريفة إلّا بيان موجز عن هذه الحالات التي كانت متأصّلة في هذا المجتمع، فجاءت لِتُبيّنَ لنا هذه الحالة، وتحذّرنا في نفس الوقت من التورّط فيها والتعاطي معها.
وقد ذكر الواحدي أنّها نزلت في أعرابٍ كانوا يقدمون على رسول الله’ المدينة مهاجرين من باديتهم، وكان أحدُهم إذا قدم المدينة فإن صحَّ وعاش معافى بها، ونتجت فرسُه مُهراً حسناً، وولدت امرأته غلاماً، وكثر ماله وماشيته، آمن به واطمأنّ، وقال: ما أُصبت منذ دخلت في ديني هذا إلّا خيراً، وإن أصابه وجع المدينة، وولدت امرأته جارية، وأجهضت دوابه، وذهب ماله، وتأخّرت عنه الصّدقة، أتاه الشيطان، فقال: والله ما أُصبت منذ كنت على دينك هذا إلّا شراً، فينقلب عن دينه، فأنزل الله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ﴾[212].
فمن أجل هكذا أُناس من أهل المصالح العبادية، أمكن تقسيم المجتمع في كلِّ زمانٍ ومكان إلی مجموعاتٍ ثلاثة:
المجموعة الأُولى: المتّقون
وهم الذين تقبّلوا الإسلام في جميع أبعاده، وفي السّراء والضّراء.
المجموعة الثانية: الكافرون
ويقعون في النقطة المقابلة للمُتّقين، ويعترفون بكفرهم، ولا يأبون أن يظهروا عداءهم للإسلام في القول والعمل.
المجموعة الثالثة: المنافقون
ولهم وجهان، فهم مسلمون ظاهراً أمام المسلمين، وكفّار أمام أعداء الدين، وشخصيتهم الأصلية هي الكفر طبعاً وإن تظاهروا بالإسلام.
وهذه المجموعة الثالثة تضرّ بالإسلام أكثر من المجموعة الثانية؛ ولذا نرى أنَّ القرآن يقابلهم بشدةٍ أكثر من الكفّار[213].
وأكثر هذه المجموعة والمجموعة الثانية كانوا يعبدونَ الله على حرفٍ،كما وصفتهم الآية محل البحث، فهي وما بعدها تتحدّث عن هذه المجموعة، وهم ضعاف الإيمان، الذين لم يدخل الإيمان إلی قلوبهم، وكان على طرف اللسان فقط، وقلوبهم لم ترَ بصيصَ الإيمان إلّا الشيء القليل، حيث كانت هذه المجموعة تعيش على هامش الإيمان والإسلام لا في عمقه، لأنَّ أحد معاني الحَرف ـ كما سيأتي ـ هو حافة الجبل أو حافة الأشياء الأُخرى، والذي يقف على الحافّة لا يمكنه أن يستقرّ. فهو قلق في موقفه هذا، يمكن أن يقع بهزّة خفيفة، وهكذا ضعاف الإيمان الذين يفقدون إيمانهم بأدنى سبب.
إنّهم يطمئنون إذا ضحكت لهم الدنيا وغمرتهم بخيراتها، ويعتبرون ذلك دليلاً على أحقيّة الإسلام، إلّا أنهم يتغيّرون بسرعة، ويتّجهون إلى الكفر إن اُمتُحنوا بالمشاكل والقلق والفقر، فالدين لديهم وسيلة للحصول على ما يبتغون في هذه الدنيا، فإن تمّ ما يبغونه كان الدين حقّاً، وإلّا فلا[214].
وهؤلاء وأمثالهم تجد الدين عندهم أشبه ما يكون بالمتاع الذي يُشترى ويُباع؛ لذا روي عن أبي سعيد الخدري أنّه قال: «أسلم رجلٌ من اليهود فذهبَ بصرُه ومالُه وولدُه وتشاءم بالإسلام، فأتى النبيَّ صلى الله عليه [وآله] وسلم فقال: أقلني، فقال: إنَّ الإسلام لا يُقال، فقال: إنّي لم أُصب في ديني هذا خيراً، أُذهب بصري ومالي وولدي، فقال: يا يهودي، إنَّ الإسلام يسبك الرجال كما تسبك النارُ خبث الحديد والفضة والذهب، قال: ونزلت ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ﴾[215].
ما هو الحرف؟
لأجل أن لا نقع في عبادة الحَرْف يلزمنا التعرُّف إلى ماهيّة الحَرف وحقيقته.
ففي الصّحاح: «على حَرْف، قالوا: على وجهٍ واحدٍ، وهو أن يعبده على السراء دون الضرّاء، والحَرف الناقة الضامرة الصلبة شبّهت بحَرْفِ الجبل... وكان الأصمعي يقول الحَرْف: الناقة المهزلة»[216]، وقريب منه ما قاله ابن فارس[217].
وفي لسان العرب: «على حَرْفٍ أي: على شكٍّ، فهو على حرف من دينه غير متوسّط فيه ولا متمكّن، فلمّا كان وسط الشيء أفضله وأعدله جاز أن يقع صفة، وذلك في مثل قوله تعالى وتقدّس: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ﴾، أي عدلاً»[218].
وقال الراغب الأصفهاني: «﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ﴾ مُفسر ذلك بقوله بعده ﴿فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌا ﴾ الآية، وفى معناه: ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ﴾، وانحرف عن كذا وتحرّف واحترف، والإحتراف طلب حرفة للمكسب، والحرفة حالته التي يلزمها في ذلك نحو القعدة والجلسة، والمحارف المحروم الذي خلا به الخير، وتحريف الشيء إمالته، كتحريف القلم، وتحريف الكلام أن تجعله على حرف من الإحتمال يمكن حمله على الوجهين، قال: ﴿ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ﴾ ـ ﴿مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ﴾ ـ ﴿ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾.
والحرف ما فيه حرارة ولذع كأنّه محرف عن الحلاوة والحرارة، وطعام حريف. «نزل القرآن على سبعة أحرف»[219].
«وقيل: الحَرف، الشرط، أي: ومن الناس مَن يعبد الله على شرطٍ، والشرط هو قوله: ﴿أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ﴾أي: خير دنيوي من رخاء وعافية وخصب وكثرة مال... ﴿ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ ﴾أي شيء يفتتن به من مكروه يصيبُه في أهله أو ماله أو نفسه ﴿ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ ﴾أي: ارتدّ ورجع إلی الوجه الذي كان عليه من الكفر...»[220].
والخلاصة: المقصود من الحَرف في الآية أحد معانٍ ثلاثة:
الأوّل: الوجه الواحد، كأن يعبده تبارك وتعالى في حالة السَّراء دون الضراء.
الثاني: الشكّ، فهو يعبد الله تبارك وتعالى وهو على شكّ في دينه.
الثالث: الشرط، يعبد الله بشرط السرّاء دون الضرّاء مثلاً ويمكن أن يكون هناك وجه آخر في تفسير الحَرف، أو وجوه لم أتعرّض لها؛ لرجوعها إلی ما ذكرناه، مثل الضعف في العبادة، والذي أشار إليه بعض العلماء[221].
ما هو السبب في عبادة الحرف؟
لقد تعرّفنا على معنى الحَرْف والعبادة الحَرفية المضطربة، أو قل: عبادة المصالح والشكّ والشروط، والآن نريد أن نُعالج المشكلة، ولا ريب أنَّ علاج هكذا مشكلة يستدعي أوّلاً: بيان السبب فيها، فما هو السبب لهكذا عبادة حَرفية؟
السبب المهم في هكذا عبادة يعود إلی نفس السبب الذي جاء به للعبادة، فإن كان السبب قويّاً صار خروجه منها صعباً، والعكس بالعكس أيضاً.
قال المازندراني&: «لأنّه كان داخلاً فيه بغير علم ولا يقين، فلذلك صار خروجه بغير علمٍ ولا يقين، وقد قال العالم×: مَن دخل في الإيمان بعلم، ثبت فيه ونفعه إيمانُه، ومَن دخل فيه بغيرِ علمٍ خرج منه كما دخل فيه. وقال×: مَن أخذ دينه من كتاب الله وسنة نبيه’ زالت الجبال قبل أن يزول، ومَن أخذ دينه من أفواه الرجال ردّته الرجال. وقال×: مَن لم يعرف أمرنا من القرآن لم يتنكّب الفتن»[222].
وقال الرازي: «(على حَرْف) أي: على طرفٍ من الدين لا في وسطه وقلبه، وهذا مَثلٌ؛ لكونهم على قلقٍ واضطرابٍ في دينهم لا على سكون [و]طمأنينة، كالذي يكون على طرفٍ من العسكر، فإن أحسَّ بغنيمة قرَّ واطمأنّ، وإلّا فرَّ وطار على وجهه؛ لأنَّ الثبات في الدين إنّما يكون لو كان الغرض منه إصابة الحقّ وطاعة الله والخوف من عقابه، فأمّا إذا كان غرضه الخير المعجّل، فإنّه يُظهر الدين عند السرّاء، ويرجع عنه عند الضراء، فلا يكون إلّا منافقاً مذموماً، وهو مثل قوله تعالى: ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ﴾»[223].
إذن السبب في عبادة الحرف يعود إلی ضعف الإيمان بالله تعالى، وضعف السبب الذي أوصله إلی الله}، فإن كان السبب قوياً صار الخروج من ربقة هذا الإيمان صعباً جداً.
فمن هنا تبيّن السبب وبه يتبيّن العلاج، وهو أن يقوّي الإنسانُ عقيدتَه بالله تبارك وتعالى عن طريق أخذه للمعارف الإلهية من منشئها الأصلي وطريقها الصحيح الذي يربط هذا الخلق بالحقّ جلّ وعلا.
فبعض الناس يريدون الدين ـ وللأسف ـ كما يشتهون وكما يحلو لهم.
قال السيّدُ ابن طاووس&: «فإنّ المستخير على غير ثقةٍ ويقين بالاستخارات، بل إن جاءت كما يريد عمل بها، وإن جاءت بخلاف ما يريد توقّف عنها، ونفر منها، وقدح في الروايات، ما يُؤمّنهُ أن يَدخُلَ تحت عموم تهديد ووعيد سُلطان العالمين في قوله تعالى: ﴿مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ﴾»[224].
والحاصل: إنّه لا يدخل في الدين متمكنّاً مستقرّاً[225].
وقال الشيخ الطوسي: «وكلّ ذلك من عدم البصيرة»[226].
فهؤلاء جعلوا عبادتهم كصفقةٍ في سوق تجارة، فإن أصابه خير في دنياه اطمأنّ، وقال: إنّ دينَنا فيه الخير، فها هو يجلب النفع، ويدرّ الضرع، وينمي الزرع، ويكفل الروّاج، وإن أصابته فتنة وابتلاء لم يتماسك له، انقلب على وجهه خاسراً الدنيا والآخرة[227].
ثمَّ قالت الآية: ﴿فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ﴾.
ما المقصود من الخير والفتنة في الآية الشريفة؟
المقصود من الخير في الآية الشريفة هو ما تقدّمت الإشارة إليه في سبب نزول الآية المباركة.
فالمروي عن أبي جعفر× فيه، قال: «فإن أصابه خير، يعني عافية في نفسه وولده اطمأنّ به، ورضي به، وإن أصابته فتنة، يعني بلاء في جسده أو ماله تطيّر وكره المقام على الإقرار بالنبيّ’ فرجع إلی الوقوف والشكّ، فنصب العداوة لله ولرسوله، والجحود بالنبيِّ وما جاء به»[228].
فالخير هنا: الصحّة في الجسم والسعة في المعيشة كما فسّره العيني في العمدة، وبخلافه الفتنة، فهي البلاء في الجسم والضيق في العيش[229].
وقال البعض: الفتنة هي العذاب أو المصيبة[230].
وقد تسائل الفخر الرازي قائلاً: «كيف قال: ﴿وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ﴾؟
وأجاب: مثل هذا كثير في اللغة؛ لأنّ النعمة بلاء وابتلاء لقوله ﴿إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ ﴾، ولكن إنّما يُطلق اسمُ البلاء على ما يشتمل على الطبع، والمنافق ليس عنده الخير إلّا الخير الدنيوي، وليس عنده شرّ إلّا الشرّ الدنيوي؛ لأنّه لا دين له، فلذلك وردت الآية على ما يعتقدون، وإن كان الخير كله فتنة، لكن أكثر ما يُستعمل فيما يشتدّ ويثقل»[231].
وقال ابن زمنين: «هو المنافق، إن رأى في الإسلام رخاءً وطُمأنينة طابت نفسه بما يُصيب من ذلك الرّخاء وقال: أنا منكم وأنا معكم، وإذا رأى في الإسلام شدّة، أو بليّةً لم يصبر على مصيبتها، وانقلب على وجهه كافراً وترك ما كان عليه»[232].
الخُسران المبين
ثمَّ إنّ هذا المتلوّن والمضطرب في عبادته إن أصابته الفتنة انقلب إلى وجهه الحقيقي وهو الكفر، وبهذا الإنقلاب عبّرت الآية بأنّه خسر الدنيا والآخرة، وهو الخسران المبين.
فانقلب على وجهه وارتدّ، ورجع إلی وجهه الذي كان عليه من الكفر، و﴿الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾ الضلال الظاهر[233].
أمّا خسرانه في الدنيا؛ لأنّه يخسر فيها العزّة والكرامة، وإصابته الغنيمة، وأهليّة الشهادة، والإمامة والقضاء، ولا يبقى ماله ودمه مصوناً.
وأمّا في الآخرة فيفوته الثواب الدائم، ويحصل له العقاب الدائم، وذلك﴿ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾[234].
وبعبارةٍ مُختصرة: يخسر الجنّة وتحصل له النار[235].
وأمّا أنّه ظاهر واضح «فلأنّه لا خسران أعظم وأظهر منه؛ لأنّ الخسران إمّا بفوات المرغوبات الدنيوية، أو بفوات المثوبات الأُخروية، أو بفواتهما جمعياً، وهذا أظهر وأبين من الأولَينِ»[236].
«فخسر دنياه التي كان يحبّها، فخرج منها، ثمَّ أفضى إلی الآخرة وليس له فيها شيء»[237].
وقد روي في معنى قوله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ ﴾، عن ابنُ مردويه: «بأسانيده عن سويد بن غفلة أنّه قال: كنتُ مع أبي موسى على شاطئ الفرات، فقال: سمعت رسول الله’ يقول: إنّ بني إسرائيل اختلفوا فلم يزل الاختلاف بينهم، حتّى بعثوا حَكَمين ضالّين، ضلَّ مَن اتّبعهما. فقلت: أعيذُك بالله أن تكون أحدهما، قال: فخلع قميصه، فقال: برّأني الله من ذلك، كما برّأني من قميصي. ولمّا جرى ليلة الهرير صاحوا يا معاوية! هلكت العرب، فقال معاوية: يا عمرو نفرُّ أو نستأمن؟ قال: نرفع المصاحف على الرماح ونقرأ ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ﴾، فإن قبلوا حُكمَ القرآن رفعنا الحرب ورافعنا بهم إلى أجلٍ، وإن أبى بعضهم إلّا القتال فَلَلنا شوكتهم، وتقع بينهم الفرقة وآمر بالنداء...»[238].
الكثير من الناس إيمانهم هكذا، مجرّد لقلقة لسان، لا ثبات له في الجنان أبداً.
ومن العجيب أن يوصف بهذا الوصف سيّد شباب أهل الجَنّة أبو عبد الله الحسين× من قِبَلِ أعداء الله، حيث كان يقول×: «أوَ لم يبلغكم ما قال رسول الله لي ولأخي: هذان سيدا شباب أهل الجنّة؟! فإن صدّقتموني بما أقول وهو الحقّ، والله ما تعمّدت كذباً منذ علمت أنّ الله يمقت عليه أهله، وإن كذبتموني فإنّ فيكم مَن لو سألتموه عن ذلك أخبركم، سلو جابر بن عبد الله الأنصاري، وأبا سعيد الخدري و... و.. أما في هذا حاجزٌ لكم عن سفك دمي؟!!
فقال له شمر بن ذي الجوشن: هو يعبد الله على حرفٍ إن كان يدري.
فقال له حبيب بن مظاهر: والله، إنّي لأراك تعبد الله على سبعين حرفاً، وأنا أشهد أنّك صادق ما تدري ما يقول، قد طبع الله على قلبك»[239].
نعم، لقد طبع الله على قلوب هؤلاء بحيث أصبح عندهم قتال ابن بنت رسول الله’ وأصحابه من أعظم القربات
قست القلوبُ فلم تمل لهدايةٍ تبّت لهاتِيكَ القلوب القاسية
ومن ثَمَّ روّعوا الأطفال وعطّشوهم، بل أماتوهم خوفاً وعطشاً وجوُعاً؛ لذا لما جمعت السيّدة زينب‘ الأطفال والعيال في مكان واحدٍ افتقدت يتيمتين، فذهبت تفتش عنهما، فوجدتهما في حفيرة وقد ماتتا من العطش، والحادثة المؤلمة أنّهما حَفَرَتا حفرةً رجاء أن يظهر لهما الماء ليرتويا منه، فماتتا من العطش بعد أن وضعت إحداهما يدها على رقبة الثانية، ولفظتا نفسيهما، وقفت الحوراء زينب‘ على مصرع الطفلتين ـ ساعد الله قلبها ـ تأكّدت من وفاتهما نادت: أُخيّة، أم كلثوم، إليّ إليّ. فأقبلت مسرعة، فقالت: ما الذي جرى؟ قالت: كما ترين، وأشارت إلی الطفلتين، وبعد إخراجهما من الحفيرة حملت السيّدة زينب بين يديها طفلةً، وأم كلثوم الأُخرى. هذا والقوم مشرفون يرون بأمِّ أعينهم ما جرى، فأقبلوا إلی ابن سعد، وقالوا: إمّا أن تأذن لنا بسقي الأطفال وإلّا سقيناهم دون إذنك، فخشى من العاقبة، قال: اسقوهم. فهبّ إلی الفرات منهم أربعون رجلاً، ملئوا القرب وأقبلوا بها والماء يتقاطر منهم، فلمّا شاهدَ الأطفال القرب وقد توجّه بها القوم إليهم هربوا، والقوم من خلفهم، فصاحوا: يا أطفال الحسين، والله ما جئنا لنضربكم ولا لنسلبكم، وإنّما جئنا لننقذ حياتكم، جئنا بالماء فقفوا واشربوا.
قالوا: نحن ما هربنا من الضرب، ولا من السلب، ولا نهرب حتّى من القتل بعد أن قُتل الحسين، ولكن هربنا من الماء!!
قالوا: لماذا؟! كان الماء مُحرّماً فحلّله لكم الآن الأمير، فضجّ الأطفال ببكائهم وكأنّي بهم:
اشلون الماي لينه تحللّونه وگبل ساعة على ابينه اتحرّمونه |
أقبل القوم إلی زينب، قائلين لها: زينب، اشربي الماء لعلَّ الأطفال يشربون إذا شربتي [كأنّي بها]:
تلتفت إلی أخيها الحسين وهو على رمضاء كربلاء:
من مرّت الناگة على جسمك حبّيت اظل يحسين يمّك |
أبا صالحٍ يامُدركَ الثأرِ كم تُرى وغيضُكَ وارٍ غيرَ أنّكَ كاظمُه |
(تغريد الحزين)
|
الرباب اتصيح يا زينب عبد الله أريدنه |
|
|||
|
وأعالج سهم البنحره إن چان أكدر على جرّه أجره واجذب الحسـره |
|
|||
|
ونت ويلي اوطاحت اوهيّة امغيّره الحاله |
||||
|
تلوج اوتِوِّن يم زينب اونوب اعله الزمان اتلوم |
|
|||
اشلون أگدر اعوفنه وامشـي او لا اودعنه رجواي انگطع منه |
|
||||
|
بس كصدي أريد الساع أشوفه وأنظر الحاله |
|
|||
***
قـال تـعـالى: ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾[242].
الميزان والضابطة عندنا نحن البشر في إضافة الصفات الحسنة أو سلبها عن الآخرين، هي الحبّ والبغض لهم، فنصف زيداً بأنَّه من نواة المجتمع، وأنَّه من الأخيار إذا أحببناه، ولم نبغضه، وإلّا فهو من أرذل خلق الله، هذا هو الشائع المعروف، وهذا لا ينافي أن تكونَ هُناك حالات أُخرى عند البعض لها ضابطها الخاص وأُسلوبها المُعيّن.
لو نظرنا إلى المجتمع البشري ولاسيّما الإسلامي، لوجدنا هُناك شخصيات خرجت من الدُنيا وقد سُلبت صفاتُها ووُضِعت لآخرين، وهناك صفات حسنة وُصِفَ بها اُناسٌ إذا رجعنا الى تأريخهم وجدناه أسودَ لا صلةَ له بالخير، لا من قريبٍ ولا من بعيد.
وهناك أُناس تسلّطوا على رقاب الآخرين، وأخذوا الأوصاف الحسنة والأسماء المثيرة ووضعوها لأنفسهم، كما تجد ذلك صريحاً في أسماء والقاب بني العبّاس، مثل: المتوكّل على الله، المعتصم بالله، المعتمد على الله، وغيرها الكثير.
ومن طريف القول أنَّ أحداً جاء لجُحا مستاءً أنّه ليس له من هذه الأسماء والألقاب، فأراد من جُحا أن يختار له اسماً مُناسباً من هذهِ الأسماء والألقاب، فقال له جُحا: لايناسبك إلّا أعوذ بالله.
والواقع أنَّه كذلك، فالكُلُّ أعوذ بالله، لكن اتّخذوا لهم ألقاباً وأسماءً تُلفت النظر؛ بُغية التغطية على جرائمهم وأفعالهم.
وهذا القُرآن يذكر لنا عينَ ما نُريدُ قولَه، ففرعون الذي عرفَتْه البشرية يصف نبيَّ الله موسى بأنَّه مُفسدٌ، وصاحبُ بدعةٍ يجب أن يُقتل، فقال تعالى: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ﴾[243].
وهذا هو ديدن الطغاة وأُسلوبهم في كلّ عصر، كيل التُهم للآخرين، والافتراء عليهم؛ حتى يقطعوا صلة الناس بهم ويسقطوهم في أعينِ مَن يعتبرونهم القدوة لهم.
والعجيب أنَّ طُغيانَ هؤلاء يصل أحياناً إلى مرتبةٍ لا يروا فيها سوى أنفسهم، وأنَّ قوام الكون بهم، ولولاهم لفسدت الحياة ومَن عليها، ويُنزلون أنفسَهم منزلةَ اللهِ تبارك وتعالى، بل يُصرّحون بذلك أحياناً، كما فعل ذلك فرعون وحكاه لنا القُرآنُ الكريم، حيث يقول: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾[244].
كم هو عجيبٌ هذا الإنسان كيف يضع نفسه بدل جبّار السماوات والأرض؟!
والخلاصة: وصف الإنسان للآخر أو لنفسه، على غير القياس أو القاعدة الواقعية التي يصف بها الله تبارك وتعالى الأشياء.
وصف الله تبارك وتعالى:
إذا وصف اللهُ تبارك وتعالى أحداً فإنّه يصفه بوصفه اللائق به، سواء كان هذا الوصف ذمّاً أم مدحاً؛ لأنَّ من صفاته الثابتة له تبارك وتعالى الواقعيّة والصدق، كما في قصصه التي يقصّها على الأنبياء والمرسلينَ، وهذا نحو منها.
فهو تبارك وتعالى ليس عنده ما عندنا نحن البشر من المُداهنةِ أو التملّق، بل هو الحقّ تبارك وتعالى، ولعلَّ ما نقوله يثبت بمجرّد التأمّل في هذه الآيات المُباركات التي يبيّن فيها هذا المعنى في أحبِّ الخلق عليه النبيِّ الخاتم مُحمّدٍ’ حيث يقول: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ﴾[245].
وكان سبب نزول هذه الآيات الشريفة هو تكذيب البعض لرسول الله عندما أخبرهم بأنَّ عليّاً خليفته من بعده، فاتّهموه أنّه كذب على الله، وأنّه وصف ابنَ عمّه بغير مايُريد اللهُ تبارك وتعالى.
فقد روى مُعاوية بن عمّار عن الإمام الصّادق× في خبرٍ: «لمّا قال النبيُّ’: مَن كُنتُ مولاه فعليٌّ مولاه. قال العدوي: لا والله، ما أمره بهذا، وما هو إلّا شيء يتقوّله، فأنزل الله تعالى: ﴿ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ ﴾ إلى قوله: ﴿عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ يعني مُحمّداً...»[246].
والخلاصة: أوصافُه تبارك وتعالى هي الحقّ، فعندما يصف فرعونَ بهذا الوصف: ﴿ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ ﴾[247]، يعني: هو كذلك واقعاً، ولم يكن هناك أيُّ شكٍ أو شُبهةٍ.
وكذلك عند ما يصف نبيَّه موسى× حيث يقول: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا ﴾[248].
وعندما يصف النبي الخاتم مُحمّداً’ يقول عنه: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾[249]، فالأمر كذلك وصفاً وواقعاً.
ومن الأوصاف القُرآنية، التي جاءت لتبيّن لنا طائفةً خاصّة اتّصفوا بأوصاف تليق بهم، وهي واقعيّة وصادقة كذلك ـ كما ذكرناه آنفاً ـ هذه الآية الشّريفة التي تتحدّث عن عباد الرحمان، والذي يريد أن يكون من هؤلاء العباد عليه أن يتّصف بهذه الصفات التي ذكرتْها الآيةُ الشريفة، والتي هي بمثابة أوسمة على الصدور، وتيجان على الرؤوس.
الصفة الأُولى: عباد الرحمان
تُبيّن هذه الآيات ـ الآية محل البحث وما بعدها ـ اثنتي عشرة صفة من صفات المؤمنين الخاصّة، حيث يرتبط بعضها بالجوانب الإعتقادية، فمنها أخلاقي، ومنها ما هو اجتماعي، بعضٌ منها يتعلّق بالفرد، وبعضٌ آخر بالجماعة، وهي أولاً وآخراً مجموعة من أعلى القيم الإنسانية، يقول تعالى: ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا ﴾[250]، وأوّل هذه الصفات أنّهم (عباد الله) ويالها من مرتبةٍ عظيمة أن يكون الإنسان قد اتّصف بهذه الصفة: عبدُ الله! ونحن نذكرُ كُلَّ يوم: أنّ مُحمّداً’ عبدُهُ ورسولُهُ، وقد أمرنا أن نُقدّم الشهادة بالعبودية على الشهادة بالرسالة، وهذا إن دلَّ فإنّه يدلُّ على عِظمِ هذهِ الصفة المُضافة له تبارك وتعالى.
وقد وصف اللهُ جلّت قُدرتُه أنبياءَه بهذه الصفة، حيث يقول: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ﴾[251].
وهذا هو المعنى الذي اختاره رسول الله’ عندما خُيِّرَ بينه وبين غيره، ففي الكافي الشّريف عن مُحمّد بن مسلم قال: «سمعت أبا جعفر× يذكر أنّه أتى رسول الله’ ملك، فقال: إنَّ اللهَ} يُخيّرُك أن تكون عبداً رسولاً متواضعاً، أو ملكاً رسولاً، قال: فنظر إلى جبرئيل وأومأ بيده أنْ تواضع، فقال: عبداً متواضعاً، رسولاً، فقال الرسولُ مع أنَّه لا ينقُصُكَ ممّا عند ربِّكَ شيئاً، قال: ومعه مفاتيحُ خزائنِ الأرض»[252].
وكذا كان وصف عيسى بن مريم× عندما عرّف نفسَه للمُرجفين بأُمّه الصدّيقة، حيث يحكي لنا ذلك القرآنُ الكريم: ﴿ يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ﴾[253].
وهو الوصف نفسه الذي فقأ أميرُ المؤمنينَ بهِ عينَ البلاغة، كما روى ذلك الشعبي، حيث قال: «تكلّمَ أميرُ المؤمنينَ× بتسع كلمات ارتجلهن ارتجالاً، فقأْنَ عُيونَ البلاغة وأيتمْنَ جواهرَ الحكمة، وقطعْنَ جميعَ الأنامِ عن اللحاق بواحدةٍ منهنَّ، ثلاث منها في المُناجاة، وثلاث منها في الحكمة، وثلاث منها في الأدب، فأمّا اللاتي في المُناجاة، فقال: إلهي كفى لي عزّاً أن أكونَ لك عبداً وكفى بي فخراً أن تكونَ لي ربّاً أنت كما أُحب فاجعلني كما تُحبّ»[254].
وهي نفس الصفة التي أنكرتها جاريةُ بشر الحافي،كما روى العلاّمةُ الحلّي& حيث قال: «وعلى يده (الإمام الكاظم)× تاب بشر الحافي؛ لأنّه× اجتاز على داره ببغداد، فسمع الملاهي وأصوات الغناء والقصب تخرج من تلك الدار، فخرجت جاريةٌ وبيدها قمامة البقل، فرمت بها في الدرب، فقال لها: يا جارية، صاحبُ هذه الدار حُرٌ أم عبدٌ؟ فقالت: بل حُرٌ. فقال: صدقتِ، لو كان عبداً خاف من مولاه! فلمّا دخلت قال مولاها ـ وهو على مائدة السكر ـ: ما أبطأك علينا؟ فقالت: حدّثني رجُلٌ بكذا وكذا، فخرج حافياً حتى لقيَ مولانا الكاظم×، فتاب على يده»[255].
فالصفة الأُولى ـ إذن ـ العبودية لله وكفى بها من صفةٍ، وكفى العباد فخراً حيث يتّصفون بها.
الصفة الثانية: التواضع
وثاني هذه الصفات بعد صفة عباد الرحمن تأتـي صفة نفي الكبر والغرور والتعالي، الذي يبدو في جميع أعمال الإنسان حتى في طريقة المشي؛ لأنَّ الملكات الأخلاقية تظهر نفسها في حنايا أعمال وأقوال وحركات الإنسان، بحيث يصبح من المُمكن جداً تشخيص بعض أخلاقه بدقة من كيفية مشيته. نعم، إنّهم متواضعون، والتواضع مفتاح الإيمان، في حين يعتبر الغرور والكبر مفتاح الكفر، لقد رأينا بأُمّ أعيُنِنا في الحياة اليومية، وقرأنا مراراً في آيات القُرآن: أنَّ المتكبّرين المغرورين لم يكونوا مستعدّين حتى ليصغوا إلى كلام القادة الإلهيين، وكانوا يتلقّون الحقائق بالسخرية، ولم تتجاوز رؤيتهم أبعد من أطراف أنوفهم، ترى أيُمكنُ أن يجتمع الإيمان في هذه الحال مع الكبر؟![256].
وبالجملة فاعلم أنَّ التواضع مفتاح كلّ خير ٍ، والتكبّر مفتاح كلّ شرٍ؛ لأنّه يمنع صاحبه من تحصيل الفضائل، وتجنّب الرذائل، ولتفصيل الكلام في ذلك مقام آخر.
والتواضع أمرٌ إضافي، تتعدّد أقسامُه بحسب ما يُضاف إليه،كالتواضع لله تعالى ولأنبيائه ولأوليائه، والتواضع للمشايخ، والتواضع للوالدين، وللمعلّم، وللمتعلّم، وللمؤمنين، وللشرفاء، وللعلماء، والتواضع في المسكن، وفي المجلس، والمطعم والمشرب، والملبس، والمنكح، والمشي، والكلام، إلى غير ذلك من الأقسام، ولكلّ من هذه الأقسام فوائد عظام، يوجب ذكرها الإطناب في الكلام والخروج عمّا هو المقصود في هذا المقام[257].
والهون ـ كما في المفردات ـ «الهوان على وجهين: أحدهما تذلل الإنسان في نفسه لما لا يلحق به غضاضة فيمدح به، نحو قوله: ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا ﴾، ونحو ما روي عن النبي’: المؤمن هيّن ليّن. الثاني: أن يكون من جهة متسلّط مستخفّ به فيذمّ به»[258].
وبعبارةٍ مُختصرةٍ: الذين يمشون على الأرض متواضعين لله}، ومتواضعين للناس غير مستكبرين، والتواضع لله يكمن في إطاعة أوامره والتذلل في عبادته، فيرفعه الله}، فعن النبيِّ الأكرم’ أنَّه قال: «مَن تواضع لله رفعه الله»[259].
وعن النبيِّ’: «ثلاثة لا يزيد الله بهن إلّا خيراً: التواضع لا يزيد الله به إلّا ارتفاعاً، وذلّ النفس لا يزيد الله به إلّا عزاً، والتعفّف لا يزيد الله به إلّا غناً»[260].
وهذه الصفة هي التي رفع الله بها بعضَ عباده المتّصفين بها، وأذلَّ آخرين بتركها والتلبّس بلباس التكبّر الذي نهى الله عن ارتدائه، ففي الحديث القُدسي إنَّ الله يقول: «الكبرياءُ ردائي فمَن نازعني ردائي قصمتُه»[261].
وهذا الذي حصل لإبليس (لعنه الله)، حيث طرده الله من الجنّة بالتكبّر والتمرّد على أوامر الله تبارك وتعالى، قال تعالى مبيّناً قصته: ﴿ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ * قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ * قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾[262].
ويقول الإمامُ أميرُ المؤمنينَ× بعد هذا المضمون القُرآني: «اعترضَتْه الحميّة، فافتخر على آدم بخلقه، وتعصّب عليه لأصله، فعدو الله إمام المتعصّبين، وسلف المستكبرين، الذي وضع أساس العصبية، ونازع الله رداءَ الجبرية. وأدرع لباس التعزّز، وخلع قناع التذلل، ألا ترون كيف صغّره الله بتكبّره، ووضعه بترفّعه، فجعله في الدنيا مدحوراً، وأعدَّ له في الآخرة سعيراً، ولو أراد الله أن يخلق آدم من نور يخطف الأبصار ضياؤُه، ويبهر العقول رواؤ[263]، وطيب يأخذ الأنفاس عرفه لفعل، ولو فعل، لظلت له الأعناق خاضعة، ولخفت البلوى فيه على الملائكة، ولكنَّ الله سبحانه يبتلي خلقه ببعض ما يجهلون أصله تمييزاً بالاختبار لهم ونفياً للاستكبار عنهم، وإبعاداً للخيلاء منهم، فاعتبروا بما كان من فعل الله بإبليس إذا أحبط عمله الطويل وجهده الجهيد، وكان قد عبد الله ستّة آلاف سنة لا يُدرى أمِنْ سني الدنيا أم سني الآخرة عن كبر ساعة واحدة، فمَن ذا بعد إبليس يسلم على الله بمثل معصية؟ كلا، ما كان الله سبحانه ليُدخل الجنّة بشراً بأمر أخرج به منها ملكاً، إنَّ حكمه في أهل السماء وأهل الأرض لواحد، وما بين الله وبين أحد من خلقه هوادة في إباحة حمى حرّمه على العالمين، فاحذروا عباد الله أن يعديكم بدائه، وأن يستفزَّكم بندائه، وأن يجلب عليكم بخيله ورجله...»[264].
وعن الإمام الصادق× أنّه قال: «أوحى اللهُ} إلى موسى×: أن يا موسى أتدري لِمَ اصطفيتُك بكلامي دونَ خَلقي؟ قال: يا ربِّ ولِمَ ذاك؟ قال: فأوحى الله تبارك وتعالى إليه: أن يا موسى إني قلّبتُ عبادي ظهراً لبطنٍ فلم أجد فيهم أحداً أذل لي نفساً منك، يا موسى إنّك إذا صلّيت وضعت خدَّك على التُراب. أو قال: على الأرض»[265].
هذا كلّه في التواضع لله}، وأمّا التواضع للناس وعباد الله فيكفيك ما قصّه لنا القرآن الكريم في موعظة لقمان لابنه، حيث يقول: ﴿ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾و﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾[266].
وفي صفة المؤمنين يقول تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾[267].
كما أنَّ الله تبارك وتعالى يأمر خاتم الأنبياء والمرسلين’ بقوله تعالى: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾[268]، وهكذا كان رسول الله ’ أكثر الناس تواضعاً، كما جاء في وصفه ’: «ويردف خلفه عبده أو غيره، ويركب ما أمكنه من فرس أو بغلة أو حمار، ويركب الحمار بلا سرج وعليه العذار، ويمشي راجلاً وحافياً بلا رداء ولا عمامة ولا قلنسوة، ويشيّع الجنائز ويعود المرضى في أقصى المدينة، يجالس الفقراء ويواكل المساكين ويناولهم بيده، ويكرم أهلَ الفضل في أخلاقهم، ويتألّف أهل الشرف بالبرّ لهم، يصل ذوي رحمه من غير أن يؤثرهم على غيرهم إلّا بما أمر الله، ولا يجفو على أحد، يقبل معذرة المعتذر إليه»[269].
علامات المتواضعين:
للمتواضعين علامات يُعرَفون بها قد ذكرها لنا الأئمة^، فعن الإمام أمير المؤمنين× أنَّه قال: «ثلاث هُنَّ رأس التواضع، أن يبدأ بالسلام مَن لقيه، ويرضى بالدون من شرف المجلس، ويكره الرياء والسمعة»[270].
وعن الإمام الصَّادق× أنَّه قال: «إنَّ من التواضع أن يرضى الرجل بالمجلس دون المجالس، وأن يُسلّم على مَن يلقى، وأن يترك المراء وإن كان محقّاً، ولا يُحبّ أن يُحمدَ على التقوى»[271].
الصفة الثالثة: اللامبالاة المقترنة بالعزّة، وليست الناشئة من الضعف، هذه هي الصفة الثالثة التي أشارت اليها الآية المباركة في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾.
فالسلام دليل عدم المقابلة بالمثل حيالَ الجهلة، وليس السلام هنا بمعنى التحية التي هي علامة المحبّة والرابطة للصداقة والإخلاص، يقول الله تبارك وتعالى: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ﴾[272].
هذا هو رد نبيِّ الله إبراهيم الخليل×كما أشار إليه قوله تعالى: ﴿قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا ﴾[273].
وذهب العلاّمة الطباطبائي& في بيان ذلك إلى القول: «أي إذا خاطبهم الجاهلون خطاباً ناشئاً عن جهلهم ممّا يكرهون أن يخاطبوا به أو يثقل عليهم، كما يستفاد من تعلُّق الفعل بالوصف، أجابوهم بما هو سالم من القول، وقالوا لهم قولاً سلاماً خالياً عن اللغو والإثم، قال تعالى: ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا ﴾ الواقعة: 26، ويرجع إلى عدم مقابلتهم الجهل بالجهل. وهذه ـ كما قيل ـ صفة نهارهم إذا انتشروا في الناس، وأمّا صفة ليلهم فهي التي تصفها الآية التالية قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا ﴾[274].
ومن طريف الرؤيا ما ذكره في المناقب حيث قال: «كان إبراهيم بن المهدي شديد الانحراف عن أمير المؤمنين×، فحدّثَ المأمونَ يوماً، قال: رأيتُ عليّاً في النوم فمشيت معه حتى جئنا قنطرةً، فذهب يتقدّمني لعبورها، فأمسكته وقلتُ له: إنّما أنتَ رَجُلٌ تدّعي هذا الأمر بأمرةٍ، ونحن أحقّ به منك، فما رأيتُه بليغاً في الجواب، قال: وأيُّ شئٍ قال: لك؟ قال: ما زادني على أن قال: سلاماً سلاماً. فقال المأمون: قد والله، أجابك أبلغ جواب، قال: كيف؟ قال: عرفك أنَّك جاهلٌ لا تُجاب، قال الله عز وجل: ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾[275].
وللسلام مظاهرٌ وتجلياتٌ يظهر بها، مثل الصبر والحلم وسعة الصدر، خصوصاً إذا كان الإنسان مُتصدّياً وقائداً، فعن الإمام أمير المؤمنين× أنَّه قال: «آلةُ الرئاسةِ سعةُ الصدر»[276]، وكم هو صعب أن يعفو الإنسان عمّن ظلمه، ويُقابلُه بالإحسان بعد مقابلته له بالإساءة، قال تعالى: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾»[277].
وهذا الخُلُق هو الذي قابل به رسول الله’ أهلَ مكّة عند الفتح، كما رواها لنا التاريخ ورواه أهل الحديث، قال العلاّمة المجلسي&: «وسعى أبو سفيان إلى رسول’، وأخذ غرزه فقبله، وقال: بأبي أنت وأُمّي، أما تسمع ما يقول سعد؟ إنه يقول:
اليوم يوم الملحمة اليوم تُسبى الحُرمة |
فقال’ لعليٍّ×: أدركه فخذ الراية منه، وكن أنت الذي يدخل بها، وأدخلها إدخالاً رفيقاً. فأخذها عليٌّ× وأدخلها كما أمر، ولمّا دخل رسول الله’ مكّةَ، دَخلَ صناديدُ قُريشٍ الكعبةَ وهم يظنّون أنَّ السَّيفَ لا يُرفع عنهم، فأتى رسولُ الله’ ووقف قائماً على بابِ الكعبةِ، فقال: لا إله إلّا الله وحده، أنجزَ وعدَه، ونصرَ عبدَه، وهزمَ الأحزابَ وحدَه، ألا إنَّ كلَّ مالٍ ومأثرةٍ ودمٍ يُدعى تحتَ قدميَّ هاتين إلّا سدانة الكعبة، وسقاية الحاجّ، فإنّهما مردودتان إلى أهليهما، ألا إنَّ مكَّةَ مُحرّمةٌ بتحريم الله، لم تحلّ لأحدٍ كان قبلي، ولم تحلّ لي إلّا ساعة من نهار، وهي مُحرّمةٌ إلى أن تقوم الساعة، لا يختلى خلاها، ولا يقطع شجرها، ولا ينفر صيدها، ولا تحلُّ لقطتها إلّا لمنشد. ثمّ قال: ألا لبئس جيران النبيِّ كُنتم، لقد كذّبتم وطردتم وأخرجتم وآذيتم، ثمّ ما رضيتم حتى جئتموني في بلادي تقاتلوني، اذهبوا فأنتم الطلقاء»[278].
فكأنَّ هذه العبارة صارت علماً لهؤلاءِ من ذلك اليوم، ويُقال لأبي سفيان ومعاوية وغيرهم من قريش: الطُلقاء، يعني طلقاء رسول الله’، وإلى هذا أشارت الحوراء زينب‘ في خطبتها في مجلس يزيد بقولها‘: أمِنَ العدل يا بن الطلقاء ـ يعني يا يزيد ـ أتعرف مَن أنت ومَن أبوك وجدك؟ أوَ تدري ما صنع جدّي مع جدّك وأبيك في يوم فتح مكة حين مكّنه الله ُمن رقابهم وسلّطه عليهم وأخذهم أُسراء؟ فكلّ ما أراد أن يفعل بهم كان له أن يفعل، ومع ذلك عفى عنهم وأطلقهم، وقال اذهبوا فأنتم الطلقاء، يا يزيد، فهذا جزاؤه! بأن قتلتَ حُسيناً وقتلتَ أصحابَه وأهلَ بيتِه وسبيتَ نساءَه وعيالَه وأطفالَه من بلدٍ إلى بلدٍ![279] وهونفس الإستغراب والتعجّب الذي نقله لنا ابنُ خلِكان في وفيات الأعيان، حيث يقول: «وقال الشَّيخ نصر الله بن مجلي مشارف الصناعة بالمخزن وكان من ثقات أهل السنّة: رأيتُ في المنام عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فقلتُ له: يا أميرَ المؤمنين تفتحون مكّة فتقولون من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ثمّ يتمُّ على ولدِك الحُسين يوم الطَّف ما تمَّ! فقال: أما سمعتَ أبياتَ ابنِ الصيفي في هذا؟ فقلت: لا. فقال: اسمعها منه. ثمّ استيقظتُ فبادرتُ إلى دار حيص بيص، فخرج إليَّ فذكرتُ له الرؤيا فَشهِقَ وأجهش بالبُكاء وحلف بالله إنْ كانت خرجتْ من فمي أو خطي إلى أحدٍ، وإنْ كُنتُ نظمتُها إلّا في ليلتي هذه، ثمّ أنشدني:
ملكنا فكان العفوُّ منا سجيةً فلمّا ملكتُم سالَ بالدمِ أبطحُ |
نعم، ماترك الطُلقاء شيئاً إلّا وفعلوه، حتى الطفل الرضيع، جاءت الحوراء زينب‘ لأخيها الحُسينِ× وهي تحمل بيدها ولدَه الرضيعَ، فقالت له: «يا أخي، إنَّ ولدَك عبدَ الله ما ذاق الماء منذ ثلاثة أيام، فاطلب له من القوم شربة تسقيه. فأخذه ومضى به إلى القوم، وقال: يا قوم، لقد قتلتم أصحابي وبني عمّي وإخوتي وولدي، وقد بقي هذا الطفل، وهو ابنُ ستةِ أشهُر، يشتكي من الظمأ، فاسقوه شربةً من الماء.
فبينا هو يخاطبهم إذ أتاه سهم فوقع في نحر الطفل فقتله...يقول الحسين×: اللهم إنَّك شاهدٌ على هؤلاء القوم الملاعين، إنَّهم قد عمدوا أن لا يبقوا من ذرية رسولك’. وهو يبكي بُكاءً شديداً»[281]
وكأنّي بأُمّهِ الرباب تواسي أباه الحُسين× ببكائها:
مياتم للحزن ننصب ونبني رماني حرمله ابسهمه ونبني |
***
ورضيعه بدم الوريـ ـد مخضب فاطلب رضيعه |
المحاضرة الحادية عشرة: الإيثار
نـاده احسين يعبـاس هذا لـواك
ظل يندب ومهرك بالحرب ينعاك
إنكسـر ظهري ولا أگدر لفرگاك وافراگك يبو فاضل علي يصعب يعبـاس حسّ احسـين يمّك يبچي وخلط دمعه بفيض دمّك وحايـر يبو فاضـل ابلمـك وسكنه تسلي الطفل باسمك تگــله ســاعه ويجيب المــاي عمّــك يخويه أيست سكنه من المـاي تجي يمي ذليله وتوگف احذاي يخويه من العطش رادت تجي اوياي تگـلك ويـن وعدك يلمـشـكـر |
قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾[282].
هو أرفع درجات الجود والسخاء، وهو أنْ يجود الإنسان بما لديه من مالٍ، أو نفسٍ، أو غيرهما ممّا هو نفيس؛ ليُقدّم غيرَه عليه.
روى الثعلبي ـ وهو من مفسّري العامّة المعروفين ـ في تفسيره: أنّ النبي’ لمّا أراد الهجرة إلى المدينة خلّف عليَّ بنَ أبي طالب بمكة؛ لقضاء ديونه وأداء الودائع التي كانت عنده، وأمره ليلة خروجه من الدار وقد أحاط المشركون بها بأن ينام على فراشه، وقال له: اتَّشح ببردي الحضرمي الأخضر، ونم على فراشي، وإنّه لا يصل منهم إليك مكروهٌ إن شاء الله تعالى. ففعل ذلك عليّ فأوحى الله تعالى إلى جبرائيل وميكائيل: إنّي آخيتُ بينكما، وجعلت عُمرَ أحدِكما أطول من الآخر، فأيكُّما يؤثرُ صاحبه بالحياة؟ فاختار كلاهما الحياة، فأوحى الله تعالى إليهما: أفلا كنتما مثل علي بن أبي طالب، آخيت بينه وبين محمّد، فبات على فراشه يُفدّيه بنفسه ويؤثره بالحياة؟! انزلا إلى الأرض فاحفظاه من عدوه.
فنزلا فكان جبرائيل عند رأسه وميكائيل عند رجليه، وجبرائيل يُنادي: بخ بخ، مَن مثلك يا علي، يباهي الله تبارك وتعالى بك الملائكة، فأنزل الله على رسوله وهو متوجه إلى المدينة في شأن علي (هذه) الآية[283]؛ ولهذا سُمّيت هذه الليلة التاريخية بليلة المبيت.
ويقول أبو جعفر الإسكافي: إنَّ حديث الفراش قد ثبت بالتواتر، فلا يجحده إلّا مجنونٌ وغيرُ مخالطٍ لأهلِ الملة[284].
هذا نوع من أنواع الإيثار، والذي يُعتبر من أهمّ أنواع الإيثار؛ لأنّه إيثار بأعزّ شيء وهو النفس، وكان مصداقه في الآية الشريفة أمير المؤمنين×.
والجود بالنفس أقصى غاية الجود[285]
وهناك نوع آخر من الإيثار، وهو نوعٌ مهم لا تقلّ أهميّته عن سابقه، وهو ما أكّد عليه النبيّ الأكرم’، وعمل به الأنصار مع المهاجرين،، حتّى نزلت فيهم آية، بل آيات.
قال عزّ من قائل: ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾[286].
يقول ابن عباس: «إنَّ الرسول’ بيّن للأنصار ـ يوم الانتصار على يهود بني النضير ـ إذا كنتم ترومون المشاركة في حصّة المهاجرين من الغنائم فشاطروهم بتقسيم أموالكم وبيوتكم، وإذا أردتم أن تبقى بيوتكم وأموالكم لكم فلا شيء لكم من هذه الغنائم.
فقال الأنصار: علامَ نتقاسم بيوتنا وأموالنا معهم؟ نقدّم المهاجرين علينا ولا نطمع بشيء من الغنائم. فنزلت هذه الآية تعظّمُ هذه الروح العالية»[287].
نعود للآية، فهي بالرغم من أنّها تتعلّق ـ كما ذكرنا آنفاً ـ بحادثة هجرة النبيّ’ وتضحية الإمام علي× ومبيته على فراشه’، ولكنَّ مفهومها ومحتواها الكلّي عامّ وشامل، وفي الحقيقة إنّها تقع في النقطة المقابلة للآيات السابقة عليها[288]، التي تتحدَّث عن المنافقين الذين يحاولون أن يحقّقوا لأنفسهم في المجتمع عزّةً وكرامةً عن طريق النفاق، ويتظاهرون بالإيمان بأقوالهم، بينما أعمالهم ليس فيها سوى الإفساد في الأرض، وإهلاك الحرث والنسل.
أمّا الطائفة الثانية الذين يشرون أنفسهم، فتعاملهم مع الله وحده، حيث يُقدّمون أرواحَهم رخيصةً في سبيله ولا يبغون سوى رضاه، ولا يطلبون عزّةً ولا رفعةً إلّا بالله، وتضحيات هؤلاء تصلح أمر الدين والدنيا، ويستقيم بها شأن الحقّ والحقيقة، وتصفو ببركتها حياة الإنسان وتثمر شجرة الإسلام.
وممّا يُلفت النظر: أنَّ البائع هوالإنسان والمشتري هو الله تعالى، والبضاعة هي النفس، وثمنها رضوان الله تعالى، في حين نرى في مواردَ أُخرى أنَّ ثمن مثل هذه المعاملات هوالجنّة الخالدة والنجاة من النار، من قبيل قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ﴾[289].
هذه الآية وحين الإلتفات إلى سبب النزول المذكور آنفاً نجدها تقدّمُ أعظمَ الفضائل للإمام أمير المؤمنين×، وإن كانت فضائله قد جاوزت الحصر والعدّ، ولكنّ هذه الفضيلة كانت في صدر الإسلام من الوضوح بمكان، دعت معاوية العدو اللدود للإمام أمير المؤمنين× أن يُرشي (سمرة بن جُندب) بأربعمائة ألف درهم؛ كي يروي حديثاً مختلَقاً يثبت فيه فضيلة هذه الآية لعبد الرحمن بن ملجم، وقد اختلق هذا المنافق الجاني هذه الفِرية[290]، ولكنّ أحداً لم يقبل منه حديثه المجعول.
وهناك نوع ثالث من الإيثار، وهو الإيثار بالطعام والشراب، وهو كسابقيه؛ الإيثار بالنفس والإيثار بالأموال ونحوه، وكان من أبرز مصاديق هذا الإيثار، بل المعلّم له هو النبيّ الأعظم’ وأهل بيته^.
ولذا روى الثعلبي، وغيرُه من المفسِّرين: «إنَّ الحسن والحسين÷ مرضا فعادهما جدّهما رسول الله’، وعادهما عامّة العرب، فقالوا: يا أبا الحسن، لونذرت لولديك نذراً، فقال×: إنّ برئ ولداي ممّا بهما صمت ثلاثة أيام شكراً لله تعالى. وقالت فاطمة: مثل ذلك، وقالت جاريتها فضة: إن برئ سيِّداي ممّا بهما صمت ثلاثة أيام شكراً لله تعالى}. فاُلبسا العافية، وليس عند آل محمّد’ لا قليل ولا كثير، فآجر علي× نفسه ليلة إلى الصبح يسقي نخلاً بشيء من شعير وأتى به إلى المنزل، فقسّمته فاطمه‘ إلى ثلاثة، فطحنت ثلثاً، وخبزت منه خمسة أقراص، لكلّ واحد منهم قرص، وصلّى أميرُ المؤمنين× صلاة المغرب مع رسول الله، ثُمَّ أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه، فجاء مسكين فوقف بالباب، وقال: السلام عليكم يا أهل بيت محمّد، مسكين من مساكين المسلمين، أطعموني أطعمكم اللهُ من موائد الجنّة، فسمعه علي× فقال: أطعموه حصّتي. قالت فاطمة‘: كذلك، والباقون كذلك فأطعموه الطعام، ومكثوا يومهم وليلتهم لم يذوقوا إلّا الماء القراح. فلمّا كان اليوم الثاني طحنت فاطمة‘ ثلثاً آخر وخبزته، وأتى أمير المؤمنين× من صلاة المغرب مع رسول الله’ فوضع الطعام بين يديه، قال: فجاء يتيم من أيتام المهاجرين، وقال: استشهد والدي يوم العقبة، أطعموني أطعمكم الله من موائد الجّنة، فسمعه عليٌّ وفاطمة÷ والباقون، فأطعموه ومكثوا يومين وليلتين لم يذوقوا إلّا الماء القراح. فلمّا كان اليوم الثالث قامت فاطمة‘ إلى الثلث الباقي وطحنته وخبزته، وصلّى علي× مع النبيّ صلاة المغرب، ثُمَّ أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه، فجاء أسير فوقف بالباب، وقال: السلام عليكم يا أهل بيت محمّد، تأسروننا ولا تطعموننا أطمعكم الله من موائد الجنّة، فإنّي أسير محمد’، فسمعه علي× فآثره وآثروه معه، فمكثوا ثلاثة أيام بلياليها لم يذوقوا إلا الماء القراح، فلمّا كان اليوم الرابع، وقد وفوا بنذرهم أخذ علي× الحسن بيده اليمنى والحسين بيده اليسرى وأقبل نحو رسول الله’، وهم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع، فلمّا بصر بهم النبي’ قال: يا أبا الحسن، ما أشدّ ما يسوؤني ما أرى بكم، انطلق بنا إلى ابنتي فاطمة. فانطلقوا إليها وهي في محرابها تصلي وقد لصق بطنها بظهرها من شدّة الجوع، فلمّا رآها النبي’ قال: وا غوثاه، أهل بيت محمّد يموتون جوعاً! فهبط جبرائيل× وقال: خذ يا محمّد، هنّأك الله في أهل بيتك. قال: وما آخذ يا جبرائيل؟ قال: هل أتى على الإنسان، إلى آخر السورة»[291].
وقد جُمِعَ الإيثار بأنواعه المتقدّمة بالنفس وبالمال والطعام والشراب، أقول: جمع كُلّ ذلك ابنُ أمير المؤمنين×، أبوالفضل العباس× الذي كان يلازم الحسين مثل الخادم الملازم لسيده، ويتمنّى أن يقوم بخدمة للحسين×، يقول الشيخ الكاشي&: كان أبو الفضل× جالساً في مجلس فيه أمير المؤمنين× فعطش الحسين×، فطلب من قنبر أن يأتيه بالماء، فقام العباس× مسرعاً ـ وكان صبياً آنذاك ـ إلى أُمّه أمِّ البنين× منادياً: أمّاه! إنّ أخي الحسين عطشان، وقد طلب الماء من قنبر، وأحبّ أن أوصل إليه الماء قبل قنبر، قامت أُمّ البنين ملأت ركوةً ووضعتها على رأس العباس، جاء العباس والإناء على رأسه والماء يراق على كتفيه.
لما رآه أمير المؤمنين× صاح: «إيهٍ يا عبّاس، هذا يوم تحمل الماء إلى أخيك فيراق الماء على كتفيك، ويوم آخر تحمل الماء إلى أخيك فيراق مخّ رأسك على كتفيك»[292].
نعم تناثر مخّ رأسه على كتفيه على أثر ذلك العمود؛ لأنّ العبّاس وقف متحيّراً لا يدري ما يصنع، يده اليمنى مقطوعة، ويده اليسرى مقطوعة، الماء أُريق على وجه الأرض، لحظات حرجة مرّت على العبّاس، لا يدري ما يفعل يستمرّ في سيره نحو الخيام؟ حينها كيف يواجه سُكينة وهي واقفة بانتظاره؟ وقد وعدها بالماء، والماء قد أُريق، يُقاتل كيف يقاتل وقد قطعت يداه؟
بينما هو في تلك الحال، جاء لعين من القوم، قال لـه: يا عباس أين شجاعتك؟ أين بسالتك؟ فقال لـه العباس×: يا هذا جئتني الآن ويداي مقطوعتان، فقال لـه اللعين: يا عباس، إن كانت يداك مقطوعتين فيداي سالمتان، آجركم الله! فضربه بعمود من حديد على أُمِّ رأسهِ ففلق هامته، ووقع من على ظهر فرسه منادياً: أ خي يا أبا عبدالله، ادركني[293].
أيّس وگف عاف العمر من ساسه رايـد ممـاتـهولا غـدر نومـاسه ضربوا ابعامـود الضغـاين راسـه طـاح ونخـه سيد شبـاب الجنـة حين الوصل لحسين صوت إعميده جـاه وگـف عنـده ونـده لعضـيده عبـاس عگبـك للعُمر ما ريـده شيفيـدني ومِنك گطعت الظنّـه سمع حسـه الحسـين وركـب وارزم وعدى إعله الخيل وطلعها إمن المخيم رد يمّه وشافه سابح إبدم تخوصر فوگ راسه والدمع خر |
لمّا صُرع العبّاس صار الحسين× بين أمرين، أولاً: نداء العباس( أخي يا أبا عبد الله، ادركني)، ثانياً: الجيش زحف على مخيم الحسين؛ لأنّه بمجرّد أن سقط العباس زحف جيش العدو إلى مخيم الحسين، كأنّهم استضعفوا جانب الحسين بمصرع أبي الفضل العبّاس فلا يدري أيدفع الجيش عن المخيم، أم يلبّي نداء العباس؟!
أخيراً رأى دفع العدو عن الخيام أولى، فحمل على الجيش وأبعدهم وهو يقول: إلى أين تفرون وقد قتلتم أخي؟ ولمّا أبعد الجيش عن الخيام توجّه نحو مصرع أبي الفضل العبّاس، وأراد الحسين حمله ولكنَّ العبّاس أبى، وهذا الإيثار الثاني، فالأوّل: كان في شرب الماء قبل الحسين عندما ملك المشرعة، والثالث: أنّه كلمّا أراد الحسين× وضع رأس أبي الفضل× في حجره لم يرضَ أبو الفضل، قال لـه الحسين: أخي يا أبا الفضل، مالي كلّما جعلت رأسك في حجري أخذته ومرّغته في الأرض؟! قال أبو الفضل×: أخي، إن جعلت رأسي في حجرك فمَن الذي يجعل رأسك في حجره. لا حظوا الإيثار، الله أكبر!!
صاح احسين يا خويه يا عباس يا نور العين يا تاجي عله الراس |
جواب أبي الفضل العباس× بلسان الحال:
يگله احسين يا زهرة اخيامي يا خويه نحّلت سكنه عظـامي |
وكأنّي بأخته العقيلة‘ تناديه:
يعبّاس يا نور العيون رحت عنك سبّية ويه الظعون |
***
او تشتكي العطشَ الفواطمُ عنده وبصدرِ صعدتِه الفُراتُ المفعمُ |
طمعتْ أن تسـومَه القـومُ ضيماً وأبی اللهُ والحِسامُ الصـنيعُ |
***
|
عگب الخدر ذاك ودلالي أمـشي بيـسر يحسين تالي |
*** |
|
|
مشـينه علی الهزل ومچتفينه اوخذونه بها اليسـر غصبن علينه اويَاكم نضل لو يحصل بدينه لمن يحسـين يلفينه المحتّم |
(أبوذية)
يخويه تعـلم بحالي وداري بگيت أرعی يتاماكم وداري |
***
عن الإمام الباقر× أنّه قال: «أربع مَن كُنَّ فيه بنی اللهُ له بيتاً في الجنّة: مَن آوی اليتيمَ، ورَحِمَ الضّعيف، وأشفقَ علی والديِه، ورَفِقَ بمملُوكِه»[295].
هي مبعث الخيرات، ومعدن الفضائل؛ فبالرحمة تتجمعُ الصِلات، وتتوحّد البشرية، بها يبرُّ الولدُ أباه، وبها يصلُ المرءُ قريبَه، وبها يألفُ الزوجان أحدهما الآخر، وبها يُكفل اليتيم، ويُشبع الجائع، ويُكسی العُريان، ويهتمّ حتّی بالحيوان.
والرحمة شعورٌ طيّب، به يُشارك الإنسان الآخرين آلامهم، مُحاولاً أن يُخفِّفَ عنهم وطأتها، وينسيهم أثقالها.
رحمة الله} لمخلوقاته:
فعن الإمام الكاظم× قال: «... ماظنّك بالرؤوف الرحيم الذي يتودّد إلی مَن يؤذيه بأوليائه، فكيف بمَن يؤذَى فيه، وما ظنّك بالتوّاب الرحيم الذي يتوب علی مَن يعاديه، فكيف بمَن يترضّاه ويختار عداوة الخلق فيه»[296].
ولذا روي أنَّ إبليس يطمع في رحمة الله} يوم القيامة.
فقد حُكي أنّ نبيَّ الله موسی (علی نبينا وآله وعليه السلام) التقی بإبليس (لعنه الله) فدار بينهما حديث، ثمَّ قال نبيّ الله موسی×: ستری ماذا سيحلُّ بك غداً؟!
قال إبليس: وأنت أيضاً ستری ماذا سأفعل غداً؟!
قال موسی: وما أنت فاعل؟
قال إبليس: أُطالبُ اللهَ بوعده،واحتجُّ بقوله: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ﴾[297] وأنا شيءٌ، فوجب أن تتسع لي رحمته، وإذا كنتُ أنا لا شيء فاللاشيء لا يُحاسب ولا يُعاقب.
قال موسی×: «إنّ رحمةَ اللهِ تتسّعُ لِمن فيهِ الأهلية والقابلية لها، وأنت بعيد عنها كلّ البعد»[298].
ولذا نری أنَّ رحمة الله وإن كانت واسعة يطمع فيها حتّی إبليس، لكن الذي ليس أهلاً لها وليس فيه القابلية علی استلامها فلا تشمله، فهي قريبة ٌ من مستحقّيها، ولذا قال تبارك وتعالی: ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾[299].
هناك عدّة أُمور تسبب الرحمة الإلهية، بحيث إنَّ الإنسان لوفعلها صار محلاً لرحمة الله تبارك وتعالی، أو قل: موجبات لنزول الرَّحمة، ومنها:
1ـ الطاعة: فعن النبي’ أنَّه قال: «تعرّضوا لرحمة الله بما أمركم من طاعته»[300].
2ـ الذكر: عن أمير المؤمنين× أنَّه قال:«بذكر الله تـُستنزل الرحمة»[301].
3ـ إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والطاعة للرسول’، قال تعالی: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾[302].
4ـ رحمة خلق الله ورحمة النفس: فعن النبيّ’ أنّه قال: «الراحمون يرحمهم الرحمن يوم القيامة، إرحم مَن في الأرض يرحمُك مَن في السماء»[303].
5ـ معرفة الإنسان نفسه: فعن أمير المؤمنين× أنّه قال: «رَحِمَ الله امرءاً عرف قدره ولم يتعدَّ طوره»[304].
1ـ رحمة مَن لا يرحم: فعن الإمام أمير المؤمنين× أنّه قال: «رحمة مَن لا يرحم تمنع الرحمة»[305].
2ـ منع الرحمة: فعنه× أنّه قال: «مَن لم يرحم الناس منعه الله رحمته»[306].
رُوي أنّه كان النبيّ’ يتكفـّلُ يتيماً، وكان كُلـّما يجلس علی طعامه يحضره ويأكل معه، فلمّا مضی زمان مات اليتيم فلم يأكل النبيّ في الليلة طعاماً، وكان يتأسّف علی فوته، فقال له أصحابُه: كم تُحزن قلبَك بفوته وحرمانك منه؟! نحن سنأتيك بيتيمٍ آخر فتكفله، قال’: «هذا اليتيم كان سيِّء الخـُلق، وأنا كنتُ تحمّـلتُ سُوءَ أَخلاقه، فلا يحصل لي من غيره ما يحصل من الفيض»[307].
وهكذا تكون مسألة اليتيم من المسائل التي اهتمَّ بها النبيّ الأكرم ’ لأجل إهتمام الباري}، حتی أنّه تبارك وتعالی جعل أكل مال اليتيم أكلاً للنار، حيث قال عزَّوجلَّ: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ﴾[308].
وقد يغفر الله تبارك وتعالی للإنسان ذنوباً كبيرة؛ لأجل اهتمامه بالأيتام،
فقد حدّث بعض الثقات أنَّ رجلاً من المنهمكين في الفساد مات في نواحي البصرة، فلم تجد امرأته مَن يعينها علی حمل جنازته؛ لتنفّر الطباع منه، فاستأجرت مَن حمل الجنازة إلی المُصلّى فما صلّی عليه أحد، فحُمل إلی الصحراء للدّفن، وكان علی جبلٍ قريبٍ من الموضع زاهدٌ مشهورٌ، فرَأَوه كالمنتظر للجنازة، فقصدها ليُصلّي عليها، فانتشر الخبر في البلد أنَّ فلاناً الزاهد نزل يُصلّي علی فلان، فخرج أهلُ البلد فصلّوا معه عليها، وتعجّب الناس من صلاة الزّاهد، وقيل له في ذلك، فقال: رأيتُ في المنام مَن أمرني أن انزل إلی الموضع الفلاني تری فيه جنازة ليس معها أحد إلّا امرأة فصلِّ عليها فإنّه مغفور له، فازداد تعجّب الناس من ذلك، فاستدعی الزاهد امرأة الميّت وسألها عن حاله، فقالت: كان طول نهاره مشتغلاً بشرب الخمر، فقال: هل تعرفين له شيئاً من أعمال الخير؟
فقالت: نعم، ثلاثة: الأوّل: كان كلّ يوم يفيق من سكره وقت الصُبح، فيبدّل ثيابه ويتوضأ ويُصلي الصُبح.
الثاني: أنّه كان لا يخلو بيته من يتيمٍ أو يتيمين، وكان إحسانه إليهم أكثر من إحسانه إلی أولاده.
الثالث: أنّه كان يفيق من سكره في أثناء الليل فيبكي، ويقول: يا ربِّ أي زاويةٍ من زوايا جهنم تـُريد أن تملأها بهذا الخبيث[309].
ومن هنا كان إيواء اليتيم يشكّل ركناً من الأركان الأربعة التي يبني الله تبارك وتعالی بها بيتاً في الجنّة للعبد الذي يتّصف بها، كما تقدّم في الحديث عن الإمام الباقر×.
وهي لا تختصُّ بالإنسان، بل تشمل حتّی الحيوان؛ فرحمة الله تبارك وتعالى عامّة وشاملة لجميع المخلوقات: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ﴾[310]، ولكن أهمّ شيء أن يرحم الإنسان أخاه الإنسان، ويهتمّ به، خاصّةً إذا كان ضعيفاً من الناحية البدنية والمادية، بل وحتّی المعنوية.
فإذا رحم الإنسان أَخاه الإنسان المسلم سوف ينزل الله تبارك وتعالی رحمته عليهما.
وقد يصل الإنسان إلی منزلةٍ دنيويةٍ وأُخرويةٍ عاليةٍ بسبب رفقه بالحيوانات ورحمته للضعيف منها.
نُقل أنَّ السلطان المقتدر (سبكتكين) كان صيّاداً من سُكّان نيشابور، ولم يكن له من متاع الدنيا إلّا فرس، فركبه يوماً وذهب للصيد كعادته، فرأی ظبياً معه فصيلهُ فقصدهما، ففرّ الظبي واصطاد الفصيل، فشدّه علی رديفه ورجع، فلمّا ذهب قدراً من الطّريق نظر إلی خلفه، فرآی الظبي يسير خلفه وينظر إليه نظر حسرة، فعلم من حاله أنّه يطلب فصيله، ولهذا يمشي خلفه فرّق وأشفق عليه في نفسه، وقال محدِّثاً نفسه: الصيد وإن كان حلالاً ومباحاً لي، لكنّ الترّحم علی هذا الظبي أولی من هذا الصيد، فوضعه علی الأرض فأخذ مع أمه بطريقهما، وكان (السبكتكين) ينظر إليهما فرأی الظبي قد رجع، وهو ينظر إليه كأنّه يدعو له، وفي تلك الليلة رأى رسولَ الله’ في منامه وهويقول له: يا سبكتكين، إنّ الله أعطاك السلطنة والدولة العظمی بشفقتك وترحمّك علی الظبي، فيجب عليك أن تراعي ذلك في رعيتـك لتدوم دولتك، فما مضی زمان حتّی استقر على سرير الملك الكبير[311].
الأمر الثالث:الشفقة على الوالدين
وهذا هو الركن الثالث والمهم في الحديث، وهو أنَّ الإنسان يشفق علی والديه ويرحمهم وينظر إليهم نظرة ًرحيمة، فإنّ: «رضا الله مع رضا الوالدين، وسخط الله مع سخط الوالدين»[312].
وهما الباب الذي إذا أراد الإنسان أن يرضي الله تبارك وتعالی يرضيه عن طريقهما حتّی قرن سبحانه وتعالی عبوديته بالإحسان إليهما، حيث قال}: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾[313].
سُئل أبو عبد الله الصّادق× عن قول الله: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾[314]، ما هذا الإحسان؟ فقال: «الإحسان صُحبتهما، وأن لا تكلفُّهما أن يسألاك شيئاً ممّا يحتاجان إليه وإن كانا مستغنين. أليس يقول الله عزّ وجل: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾[315].
فمن حقّنا أن نعرف ويعرف كلُّ ذي لُبٍّ: أنّ الأب وإن عظم حقّه لما يقوم به للولد من بذل ٍ في سبيل تثقيفه وتأديبه، فيما ليس بأمكان الأُمّ أن تقوم بالبعض منه إلّا نادراً هوأقلَّ منها حقاً علی الولد، كيف ولماذا؟! لأنـّها تحمّـلت في حمله والمخاض به في (ساعات الطلق) الموصوفة بسكرات الموت، تحمّلـت ما لم يستطع الوالدُ لوكـُلّف تحمُّلَ بعضه، إضافةً إلی ما تحمله الأُمّ للولد من حنانٍ فائق.
هذا أمير المؤمنين× ووصيُّ رسولِ ربِّ العالمين يُخاطبُ ولده الحسن الزكيّ× مظهراً شدّة حبّه له: «[بنيَّ] وجدتـُك بعضي، بل وجدتـُك كـُلـّي، حتّی كان شيئاً [أو سهماً] لو أصابك أصابني، ولو أنَّ الموت أتاك أتاني»[316]، يخاطبُه بهذا الخطاب والحسن× يومها بتمام الصحّة وريعان الشباب لم يُصب بشيءٍ، لكن الإمام× يصف شفقته عليه وتألُّمَه لأجله، لوقـُدّر أنّه يُصابُ بسهمٍ أو بجرحٍ يقول له الإمام×: إنَّ ذلك السهم باللحظة نفسها سيصيبني، وما ذلك إلّا من شدّةِ الحُبّ والصفاءِ والولاء الذي بينهما، فصار ما يُؤلمه يُؤلم الإمام وما يُصيبه يُصيب الإمام×.
وقال حُكماء العرب: إصابة ُ السَّهم أخفُّ ألماً من إصابة الهمِّ والغمِّ.
ولذا يقف الإمام الحسين× على ابن أخيه القاسم بن الإمام الحسن×، وكأنّما وقف الإمام على ولده؛ لأنّه هو الذي ربّاه واعتنى به، وكأنّي به يخاطبه[317]:
صاح يا جسّام أوعد راسه گعد ويل گلبي ينحب اوگلبه انمرد |
ثمّ أخذ عمُّه الحسين يناشده:
يعمّي اشگالت من الطبر روحك يجاسم ما تراويني اجروحك |
***
إن يبكه عمّه حزناً لمصـرعه فما بكى قمرٌ إلّا على قمرِ |
المحاضرة الثالثة عشرة: القناعة
راحلٌ أنتَ والليالي نُزولُ ومـضرٌّ بك البقاء الطـويلُ |
من سـحگت عليه الخيل طلعت زينب تنادي |
***
عن الإمام جعفر الصّادق× أنّه قال: «مَن قنع من الله باليسير من المعاش رضي الله منه باليسير من العمل»[319].
هي الاكتفاء بقدر الحاجة والضرورة من المال وغيره من أُمور الدنيا، وهي صفة فاضلة، ومن أعظم الوسائل للوصول إلی السعادة الأبدية، والقنوع مرتاح البال، متفرغٌ لأمر الدين وسلوك طريق الآخرة[320].
عن الإمام الصّادق× أنَّه قال: «خمسٌ مَن لم تكنْ فيهِ لم يتهنّأ بالعيش: الصّحة، والأمن، والغنی والقناعة والأنيس الموافق»[321].
قيل لبعض الحكماء: رأيتَ شيئاً أفضل من الذّهب؟ قال: نعم، القناعة. وإلى هذا ينظر قول بعض الحكماء: اِستغناؤك عن الشيء خيرٌ من استغنائك به.
كان ديوجانس الكلبي من أساطين حكماء اليونان، وكان متقشّفاً زاهداً لا يقتني شيئاً ولا يأوي إلی منزل، دعاه الإسكندرُ إلی مجلسه فقال للرسولِ: قل له: إنَّ الذي منعك من المسير إلينا هو الذي منعنا من المسير إليك، منعك إسغناؤك عنَّا بسُلطانك، ومنعني استغنائي عنك بقناعتي[322].
هذهِ هي القناعة وضدّها الطمع، وهو تمنّي ما في أيدي النّاس، وأن يحصل على ما عندهم، وبعبارة أُخرى: اشتهاء الشيء والرغبة فيه والحرص عليه، وهو من الرذائل المهلكة [323].
إلّا أنّه يُمدح في بعض الموارد، وهي:
1ـ الطمع بعفو ورحمة الله.
2ـ الطمعبنعيم الآخرة وسعادتها.
وأمّا مطلق الطمع فهو مذموم أشدَّ الذمّ؛ لأنّه يؤدّي في بعض الأحيان إلی قتل الإنسان.
رُوي: «أنَّ المسيح× خرج يوماً إلی البرية ومعه ثلاثة من أصحابه، فلمّا توسّعوا في البرية رأوا لبنة من ذهب مطروحة في الطريق، فقال عيسی×: هذا الذي أَهلك من البرية مَن كان قبلكم، إيّاكم ومحبّة هذا، فمضوا عنها فما مضی ساعة حتّی قال واحد منهم: يا روح الله، ائذن لي في الرجوع إلی البلد فإنّي أَجدُ الأَلم، فأذن له، فأتی إلی اللّبنة ليأخذها فجلس عندها.
فقال الثاني: يا روحَ الله، ائذن لي في الرجوع فأذن له، وكذلك الثالث، فاجتمعوا عند تلك اللبنة ليأخذوها، فقالوا: نحنُ جياع، فليمضِ واحد منـّا إلی البلد ليشتري لنا طعاماً حتّی ندخل البلد، فمضی واحد فأتی إلی السوق واشتری طعاماً فقال في نفسه: إنّي أجعل فوقَه سُمّاً فيأكلان فيموتان، فتبقی تلك اللبنة لي وحدي، فوضع في الطعام سُمّاً.
وأمّا الآخران فتعاقدا علی أن يقتلاه ويأخذا اللبنة، فلمّا جاء بالطعام بادرا إليه وقتلاه وجلسا يأكلان الطعام، فما أكلا قليلاً حتی ماتا فصاروا كلُّهم أمواتاً حول تلك اللبنة، فلمّا رجع عيسی× مرّ علی تلك اللبنة، فرأی أصحابه أمواتاً فعلم أنّ تلك اللبنة هي التي قتلتهم، فدعا الله فأحياهم لأجله، فقال لهم: أما قـُلتُ لكم: إنَّ هذا هو الذي أهلك مَن كان قبلكم فتركوا اللبنة ومضوا»[324].
هناك عدّة نتائج للقناعة منها:
1ـ العزّ: فعن الإمام أمير المؤمنين× أنّه قال:«ثمرة القناعة العزّ»[325].
2ـ الاكتفاء والرضی بما عنده.
3ـ صلاح النفس: فعن الإمام أمير المؤمنين×أنّه قال: «أعوَن شيءٍ علی صلاح النفس القناعة»[326].
4 ـ القناعة راحة: فعن الإمام الحسين× أنّه قال: «القُنوع راحة الأبدان»[327].
5 ـ سهولة الحساب ويسره يوم القيامة.
عن أبي بصير قال: سمعتُ أبا عبد الله× يقول: «أرسل عثمان إلی أبي ذرّE موليين له و معهما مئتا دينار، فقال لهما: انطلقا إلی أبي ذرّ فقولا له: إنَّ عثمان يقرئك السلام، ويقول لك: هذه مئتا دينار فاستعن بها علی ما نابك. فقال أبو ذر: هل أعطی أحداً من المسلمين مثل ما أعطاني؟ قالا: لا، قال: إنّما أنا رجلٌ من المُسلمين يسعني ما يسع المُسلمين. قالا له: إنّه يقول: هذا من صُلب مالي وبالله الذي لا إله إلّاهو ماخالطها حرام ولا بعث بها إليك إلّا من حلال. فقال: لا حاجة لي فيها وقد أصبحتُ يومي هذا وأنا من أغنی الناس. فقالا له: عافاك الله وأصلحك، ما نری في بيتك قليلاً ولا كثيراً ممّا يُتمتع به، فقال: بلی، تحت هذا الأكاف الذي ترون رغيفا شعيرٍ قد أتی عليهما أيّام، فما أصنع بهذه الدنانير، لا والله حتّی يعلم الله أنّي لا أقدر علی قليل ولا كثيرٍ، وقد أصبحتُ غنيّاً بولاية علي بن أبي طالب× وعترته الهاديين المهديين الراضين المرضيين الذين يهدون بالحقّ وبه يعدلون. وكذلك سمعتُ رسولَ الله’ يقول: فإنـَّه لقبيحٌ بالشيخ أن يكون كذّاباً، فرُدّاها عليه وأعلِماهُ: إنّي لا حاجة لي فيها ولا فيما عنده حتّی ألقی الله ربّي فيكون هو الحاكم فيما بيني وبينه»[328].
فهكذا تعلّم أبو ذرّ الغفاري من النبيّ الأكرم’ ومن الإمام أمير المؤمنين×، تربّی على أن لا يكون عبداً مسترقّاً، وإن كلَّفه ذلك أن يموت وحيداً وغريباً، وكذا تربّی وعاش أبو الفضل× على أن لا يكون مسترقّاً فقد تعلّم الصرخة الحسينيّة: هيهات منّا الذلة...
ولذا تری أنّه× لمّا جاء إليه الشمر (لعنه الله) ومعه كتاب من ابن زياد فيه الأمان للعباس وإخوته، بحيث لو رضي به العباس وإخوته لحصل الشمر علی جائزة من عبيد الله بن زياد (لعنه الله). فصاح الشمر: أين العباس وإخوته؟ وكان العباس وقتئذٍ جالساً بين يدي الحسين×، فأطرق برأسه حياءً من الحسين، فصاح الشمر ثانياً وثالثاً، فالتفت الحسين× إلی أخيه أبي الفضل العباس× قائلاً: أجبه يا أخي ولوكان فاسقاً.
ركب أبو الفضل× جواده، وأتی نحو الشمر وقال: ما تريد يا بن ذي الجوشن؟ فقال: يا أبا الفضل هذا كتاب من ابن زياد، يذكر فيه بأنّك أنت وإخوتك آمنون وأنت الأمير علی هذا الجيش، فلا تعرّض نفسك للقتل! فقال له العباس×: لعنك الله ولعن آمانك، أتـُؤمننا وابن رسول الله لا أمان له، ويلك، أفبالموت تخوفني؟! وأنا المميت خواض المنايا، أأَترك مَن خلقني الله لأجله وأدخل في طاعة اللعين وأولاد اللعناء[329].
نعم كيف يترك إمام زمانه وسيده ومولاه، ولذا نراه قد وفى لسيد الشهداء×، فقدّم كلَّ مايمكن أن يقدّمه مأموم لإمام زمانه، إلى أن وقع على رمضاء كربلاء، ونادی: أخي يا حسين أدرك أخاك.
أقبل أبو عبد الله× نحو مصرعه، كشف الأعداء عن جسد أبي الفضل العباس×.
يقول حميد بن مسلم: لمّا وصل بالقرب من العباس طأطأ رأسه إلی التراب وحمل شيئاً وقبّله، نظرنا وإذا هي يمين العبّاس، بعد ذلك طأطأ رأسه مرّة ثانية وحمل شيئاً آخر وقبّله، وإذا هي شمال العباس×، بعد ذلك أخذ شيئاً آخر وقبّله، نظرنا وإذا بها عمامة العباس ملطخة بالدماء... وصل إليه أخذ رأسه وضعه في حجره أرجعه أبوالفضل وعفّره بالتراب، أرجعه الحسين مرّة ً ثانية إلی حجره، أرجعه العباس إلی التراب، وهكذا ثالثةً، فالتفت إليه الحسين× قائلاً: الوداع الأخير يا بن والدي!
فقال العباس: أخي أبا عبد الله يا بن الزهراء، الآن أنت تأخذ برأسي تضعه في حجرك، ولكن روحي فداك أبا عبد الله مِن بعدي مَن الذي يأخذ برأسك؟ مَن الذي يمسح الدم والتـُراب عن وجهك؟[330]
خويه من يغمضلك اعيونك يا هو اللّي يگف يحسين دونك عله افراگي أشوف انخطف لونك وتضل بعدي يبو سكنه محيّر يا عباس لمن صـدّت العين منـي لعـد ايـديـك الاثـنـيـن دمهن يسـيل اوشـفت چفين فوگ الثری ناديت صوتـين واحـد نواعـي اوواحد ونين يعباس صارت طـيحـتك وين يعـباس آنه اعضيدك احسـين مگدر علی افراگك يلحنين |
وســـفه يفـــرگ بيـــنه البيــن
(أبوذية)
چنت عوني ونه
بالكـون عونك گضيت اللي عليك اوفزت عونك |
***
ما خلتُ بعدَك أن تشلَّ سواعدي |
|
وتكفَّ باصرتي وظهري يُقصمُ |
المحاضرة الرابعة عشرة: الرضا بقضاء الله
يا مَن يلومُ على البكاء عيوني دعها تُخفِّف لوعتي وشجوني مَن مُبلغٌ أُمَّ البنين رسالةً مِنْ والهٍ بشجونه مرهونِ لا تسأل الرُكبان عن أبنائها في لوعــــةٍ لفراقهم وحنينِ أوَ ما درت بفعالهم يومَ الوغى في كربلاءَ وهُم أعزُّ بنينِ فلتأتِ أرضَ الطَّفِ تنظرُ وِلدَها ثاوين بين مقطَّعٍ وطعينِ ومُوسَّدين على الصعيد فديتُهم صرعى بلا غُسلٍ ولا تكفينِ وقضوا ضحايا كالحسين زعيمهم ما بلَّلوا أحشائهم بمعين[331] |
(بحراني)
بالله استعـدي للبـواچي يمّ البنـين
ردوا يتامه وانذبح عبّاس واحسين
يمّ البنين اتـذبحـوا كلّـهم على الگـاع
وحسين ظل امجرّد ومكسور الأضلاع
ومخدرة حيدر علي فرت بلا اقناع
ويه الحرم والنار تسعر بالصواوين
يمّ البنين الأربعة أنذبحوا ظمايا
وظـلوا ثلث تيّـام بالغـبره عـرايا
ليتچ نظرتي عالنهر صـاحب الراية
مفضوخ راسه إمگطعه إشماله واليمين
وكأنّي بها صاحت:
(قطيفي)
يا ليت عندي من الولد سبعين مولود
بالمرجله كلّـها مثل عبـّاس وتـزود
تنذبح وابن المصطفى لدياره يعود
سـالم ولا تنظام زينب والخواتين
عن النبيّ الأكرم’ أنّه قال: «يَقولُ اللهُ}: مَن لَم يرضَ بقَضائي، ولَم يشكُرْ لِنعمائي، ولم يَصْبِر على بَلائي، فلْيتخذْ ربّاً سوائي»[332].
الرضا بقضاء الله تبارك وتعالى معناه أنَّ الإنسان يترك الاعتراض والسخط على قضاء الله وقدره.
والرضا بقضاء الله وقدره متعلّقٌ بالحبّ، فإذا حصلت المحبّة بين الإنسان وربّه حصل الرضا بالقضاء النازل من المولى}؛ لأنَّ الحبيب لا يتوقع من حبيبه إلّا الخير، بل يحمل جميعَ أفعالِه وما يَصنع به على أحسنها وأتمّها وأقومها. والرضا بقضاء الله هو أحد أركان الإيمان على ما ورد في بعض الروايات.
منها: ما رُوي عن النبيّ الأكرم’ أنّه سأل طائفةً من أصحابه، فقال: «ما أنتم؟ فقالوا: مؤمنون. فقال: ما علامة إيمانِكم؟ فقالوا: نصبر عند البلاء، ونشكر عند الرخاء، ونرضى بمواقع القضاء. فقال’: مؤمنون وربِّ الكعبة»[333].
وحُكي أنَّ أحد الصالحين كان لـه ولدٌ مريضٌ، فرآه صاحبه في حالة من الحزن والارتباك والخوف على طفله، وشاهده يدخل ويخرج من باب بيته، ويدعو الله} أن يشفيه، وبعد ساعاتٍ مضت، رآه وقد خرج من منزله وهو مرتاح، فظنَّ أنّ الطفلَ شُوفي فقال لـه: الحمدُ لله على شفاء الولد، فقال لـه الرجل الصّالح: لقد مات الطفل! فتعجّب الرجل وقال لـه: رأيتك أثناء مرضه وأنت حزين خائف مرتبك، والآن وقد مات أراك مرتاحاً.
فقال له الرجل الصالح: كان علينا أن ندعو الله} أثناء مرضه، وأن نأتي بالطبيب والدواء، ولكن الطفل قد مات وقد رضينا بقضاء الله وقدره[334].
ثمّ إنّه لا شك أنّ هناك أُموراً تساعد الإنسان على الرضا بقضاء الله وقدره. وأوّل هذه الأُمور هو المعرفة والعلم، فالإنسان الذي يعلم أنَّ الله عادل وحكيم، ولا يقدّر لعبده إلّا ما هو خير له، لا يسخط على أمر الله ، فالطفل حينما يهرب من الطبيب لا يعلم أنَّ هذا الطبيب سوف يعالجه، وذلك لمصلحته، وكذلك الجاهل بقدرة الله وعظمته وحكمته يغضب ويسخط إذا ما أصابه قضاء الله.
فعن الإمام الصّادق× أنّه قال: «إنَّ أعلم الناس بالله أرضاهم بقضاء الله}»[335].
إذن، المعرفة والعلم هما الأمران اللّذان يُساعدان الإنسان على الوصول إلى الدرجات العالية، ويجعلانه يرضى بقضاء الله وقدره.
ومِن ثَمَّ أنّ هناك أُموراً حتمية لا مجالَ لتغييرها.
فالموت ـ مثلاً ـ قضاءٌ محتّم، ولا مدخل فيه للإرادة الإنسانية، فينبغي للإنسان أن يُسلّم للإرادة الإلهية، وفوق التسليم أن يرضى بقضاء الله وقدره، ولا يغضب لذلك.
نعم، بعض الأُمور تحتاج إلى السعي مثل ذهاب الإنسان المريض إلى الطبيب، وطلب الرزق، وغير ذلك، أمّا نفس الموت، فماذا يصنع له الإنسان وقد قال تعالى: ﴿فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾[336].
لكن في كلّ الأحوال الواجب علينا هو الرضا بقضاء الله وقدره؛ ولذا ترى النبيّ الأعظم’ عندما توفي إبنه إبراهيم× حزن وبكى، وروي عنه’ أنّه قال: «العين تدمعُ، والقلبُ يحزن ولا نقول إلا ما يُرضي ربّنا»[337].
وكيف لا؟ وقد قال تعالى عنه: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾[338]. فمن هنا ينبغي لنا نحن المسلمين الاقتداء بالنبيّ الأكرم’.
وإذا رضي الإنسان بقضاء الله وقدره وصبر على ما ابتلاه به المولى}، سوف يشعر حينئذٍ بالثمرات التي يلمسها بيده، ويحسّها بقلبه، ويحصل على تلك النتائج الباهرة بصورةٍ ملموسةٍ وظاهرةٍ.
وأوّل هذه النتائج وأهمّها الراحة، فقد ورد عن أمير المؤمنين× أنّه قال: «مَن رضي بما قُسم له استراح بدنُه»[339].
ومنها: ذهاب الحُزن، فلم يحزن على ما فاته، ويكون قريباً من الله تبارك وتعالى.
إلى غير ذلك من النتائج العالية التي يلمسها الإنسان في الحياة الدنيا.
وأمّا ما أعدّه الله تبارك وتعالى له في الآخرة فهو الجنّة بإذنه}.
ومن عجيب قصص الرضا بقضاء الله وقدره، ما رواه ذو النون المصري، حيث قال: دخلت المقبرة فرأيتُ امرأةً شابّةً جالسةً، وبين يديها قبور أربعة، وهي تنشد هذه الآبيات:
صبرتُ وكان الصبر خير مطيّةٍ وهل جزع يجدي تراه فأجزعُ |
فقلت: ما الذي نزل بكِ، وما شأنكِ؟
قالت: أعجب شأنٍ، أصبحت ولي بنون ثلاثة ولي زوج عطوف، وأمسيت وقد فارقتهم جميعاً، أفنتهم أيدي الزمان.
قلت: وكيف ذلك؟
قالت: إنّ بعلي قام إلى شاةٍ لنا في البيت فذبحها، وكان لي ابنان صغيران جعلا ينظران إلى ما فعل أبوهما، فلمّا خرج أبوهما قال أحدهما للآخر: هَلُمَّ يا أخي حتّى أذبحك كما ذبحَ أبوك الشاة، فقال: نعم، قام إليه وأخذ السكين وذبحه، وأنا كنت مشغولةً ببعض الأُمور، فلمّا أتيتُ إذا به يخور في دمه، ويتمرّغ فيه، فصحت به ويلك ما صنعت بأخيك، ذبحته، أفٍ لك! فارتعد واضطرب، وخاف وهرب إلى الصحراء، فدخل أبوهما ووقف على الأمر ثُمَّ خرج إلى الصحراء يطلب ابنه، وإذا هو بذئبِ قد وثب على الغُلام ومزّقه، وتناول لحمه، وبقي بعض أعضائه، فحمله أبوه ليدفنه، فبينما هو يسير أصابه عطشٌ شديد، وقد اشتّد حُزنه على ولديه، فسقط ومات، فبينما أنا باكية حزينة على ولدي المذبوح، إذا أخبرت وأُنبئتُ بموت زوجي وولدي الآخر، فخرجت لأستبين الخبر وإذا هو كما قالوا، ولمّا رجعت إلى الدار إذا بولد آخر لي، وهو طفل صغير قد أقبل إلى القدر وهو على النار فوقع في القدر ونضج ومات، وهذه قبورهم، وأنا أصبر على ذلك؛ لأنّي أعلم أنّ الصبر أحجى وأجمل.
ذكّرني حالُ هذه المرأةِ الصالحةِ الصابرةِ حالَ أُمِّ البنين، كانت تأتي إلى البقيع، وتصنع أربعة قبور رمزية، وبين يديها يتيمان لقمر بني هاشم العبّاس بن علي×، وهما عبد الله والفضل، وتندب بنيها أشجى ندبة وترثيهم[340].
ولذا لمّا رجعت عائلةُ الحسين× إلى المدينة قالت زينب‘: لا أُريد أحداً يدخل عليَّ إلّا مَن فقدت لها عزيزاً في كربلاء. وجلست في منزلها، وجعلت جاريتها على الباب، وإذا بالباب تُطرق، فقالت الجارية: مَن على الباب؟ فإنّ سيدتي زينب لا تُريد أحداً يدخل عليها إلّا مَن فقدت لها عزيزاً في كربلاء.
فقالت لها: قولي لسيدتك: إنّي شريكتُها في هذا العزاء، وأُريد أن أدخل عليها وأساعدها، فإنّي مثلها في المصاب، فلمّا أخبرت الجارية زينب. قالت: سليها مَن هي حتى تكون مثلي في المصاب، ثُمَّ قالت: إن صدق ظنّي فإنّها أُمُّ البنين، فرجعت الجارية وقالت لها: سيدتي تقول مَن أنتِ التي مثلها في المصاب؟
قالت: أنا الثاكلة!! قالت: أوضحي لي من تكونين؟ قالت: أوَ ما عرفتيني، أنا أُمّ البنين، قالت الجارية: لقد صدقت سيدتي في ظنّها، وإنّك والله كما تقولين أُمُّ المصيبة العظمى والفاجعة الكبرى:
صاحت صوت آيا فگد الأطياب والله إشموحشه يا دور الأحبـاب |
ثمّ فتحت لها الباب، فلمّا دخلت استقبلتها زينب، واعتنقتها وقالت:
عظّم الله لك الأجر في أولادك الأربعة.
فأجابتها أُمّ البنين: وأنتِ عظّم الله لك الأجر في الحسين×[341].
بچت زينب اونادت تلگنها بالله اوياي گومن ساعـدنها |
(أبوذية)
على
الأولاد زيـدي النـوح يمهُـم ابفرد
ساعة الدهر بالطبگ يمهم |
(تخميس)
يا ميّتاً ترك الألبابَ حائرةً تناوشتْه سهامُ البغي راميةً |
حاكت له الريح ظافي مئزرٍ وردا
المحاضرة الخامسة عشرة: برّ الوالدين وعقوقهما
ماتَ التصبّرُ في انتظاركَ أيّها المُحيي الشـريـعـه |
(نصاري)
مشينـه اعـله الهـزل وامچتفينه
اوخذونه ابها اليسـر غصباً علينه
اوياكم نضل لو يحصل بدينه
لمـن يحسين يلفينه المحتـم
مشت فوك الظعـن والحـرم تنحـب
اوعليها أسياط شمر اوزجر تلعب
حتّه الظعن للكوفة تگرب
لا بن زيـاد لمـبشر تجـدّم
(فايزي)
من گال للكوفة العقيـلة اميسّـرة اتروح
فوك الجمال الظالعة أو بين العده اتنوح
اتعاين الروس إخوانها جـدامها اتلـوح
فـوك الرمـاح ابديرة الكوفـة ادخلوها
وكأنّي بزينب تخاطب حامل الرأس:
يشايل راس حامينه اوولينه ريّض خلي اتودعـه إسكينه |
قال تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾[343].
برُّ الوالدين هو الإحسان إليهما، وهو من أفضل القُربات إلى الله}.
وضده عقوق الوالدين، وهو الإساءة إليهما.
وكلا الأمرين يتحقق بالأعم من القول أو الفعل، بل أحياناً نجد أنّ الإيذاء باللسان أقوى تأثيراً من الإيذاء بالفعل الخارجي؛ فقد تكون كلمة تصدر من الإنسان أشدّ من جرح السيوف.
قال الشاعر واصفاً ذلك:
جراحاتُ السنانِ لها التئامُ ولا يلتامُ ما جَـرحَ اللّسانُ[344] |
وهذا الموضوع ـ برُّ الوالدين وعقوقهما ـ من الموضوعات التي اهتمّ بها الباري} اهتماماً منقطع النظير، حتّى أنّه تبارك وتعالى قرن برّ الوالدين والإحسان إليهما بالتوحيد، وكأنّه} يريد أن يقول للمجتمع: إنّ درجة برّ الوالدين درجة بالغة الأهميّة، تكاد تصل إلى درجة الإيمان بي.
ولذا، تجد أنَّ أربع آيات في الكتاب العزيز قرنت برَّ الوالدين بالتوحيد.
الآية الأُولى: في سورة البقرة آية 83، حيث قال تبارك وتعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا...﴾.
والآية الثانية: في سورة الأنعام آية 151، حيث قال: ﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا...﴾.
والآية الثالثة: في سورة النساء حيث قال عزَّ من قائل في آية 36 من السورة المذكورة: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا...﴾.
بالإضافة إلى الآية المذكورة في صدر المحاضرة والتي هي محل البحث.
فهذه الآيات قرنت بين الإيمان بالله تبارك وتعالى وبين برّ الوالدين.
وأمّا الآيات التي حثّت على برّ الوالدين بصورة عامّة من غير القرن بالتوحيد فهي كثيرة، منها في سورة لقمان آية 15، ومنها في سورة الأحقاف آية 150، وغيرها. وهذا كلّه ترغيب وحثٌ مؤكدٌ من القرآن الكريم.
وأمّا ما ورد في الحثّ على برّ الوالدين والتجنّب عن عقوقهما على لسان النبيّ الأعظم’، وأهل بيته^في أحاديثهم الشريفة فكثير، إذ ورد عنهم^: «إذا كان يوم القيامة كشف غطاء من أغطية الجنّة فوجد ريحَها من كانت له روح من مسيرة خمسمائة عام إلّا صنفٌ واحدٌ، ق