العتبة الحسينيةمؤسسة وارث الأنبياء
مخطوطة العتبة الحسينيةمخطوطة وارث الأنبياء
الزيارة وأثرها في تلبية الحاجة الروحية للزائر

الزيارة وأثرها في تلبية الحاجة الروحية للزائر

رئيس التحرير

خلاصة المقال

بسم الله الرحمن الرحيم

ما إن بدع اللهُ سبحانه هذا الإنسان حتى هيّأ له القوانين والتشريعات الموائمة لخلقته وفطرته، فهو سبحانه أعلم بما يُلبّي حاجات هذا الإنسان وتطلّعاته، وما يرتقي به في سلِّم درجات الكمال، قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ)[1]، ولكن بشرط أن تصل هذه التشريعات والتعاليم صافيةً نقيةً عبر قنواتها الصحيحة، وعلى أيدي مَن جعلهم الله ـ الأدلّاء على شرعه والأُمناء على وحيه، والوسطاء بينه وبين خلقه، من الأنبياء والرسل والأئمّة والأوصياء^.

ولكنّ الأُمّة في بعض الأحيان هي التي تحرم نفسها من هذه النعمة بسوء اختياراتها؛ حين  تقطع صلة الارتباط مع أُمناء وحي الله تعالى، ولو في بعض حلقاتها، فتعيش حالةً من التخبّط والتيه وفقدان البوصلة في مسيرتها، وهذا ما حصل ـ مع الأسف ـ لبعض الاتّجاهات الإسلامية الفكرية عندما أشاحت بوجهها عن السبيل الإلهي في اتّباع القرآن الكريم وتبيانه الحقيقي، وقد أثّر هذا المنحى الفكري على  كثير من مفاصل منظومتها الفكرية والدينية، ممّا جعلها في كثير من الأحيان تتضادّ في تشريعاتها وتعاليمها مع الفطرة الإنسانية، بخلاف مدرسة أهل البيت^ التي غطّت جميع الجوانب والحاجات والالتزامات والرغبات التي تتطلّبها الفطرة الإنسانية، وبالخصوص صور الارتباط بالله سبحانه وتعالى المتعدّدة.

وقد نلمس هذا الأمر جليّاً في مفردة زيارة قبور وأضرحة الأنبياء والأئمّة والأولياء، وشدّ الرحال إليها، والحضور عندها، فبعض الاتّجاهات الإسلامية وقفت بالضدّ من هذه الممارسة الإسلامية وصنّفتها في خانة البدع والممارسات المنافية للتوحيد!

إلّا أنّ مدرسة أهل البيت^ بما تحظى به من ثراء فكري ومعرفي ـ نتيجة ارتباطها بأهل بيت العصمة والطهارة^ الورثة الحقيقين لصاحب الرسالة ـ أغنت هذه الشعيرة وأشبعت جميع جوانبها النظرية والعملية، فرسمت للمؤمن الزائر منهاج عمل متكامل يُلبّي فيه حاجاته الروحية والبدنية؛ استناداً لوعي هذه المدرسة الإلهية لتركيبة هذا الإنسان المركّب من جزء روحي ونفسي له متطلّباته، وجزء مادّي بدني له حاجاته ومتطلّباته أيضاً، ولذا تجد أنّ شعيرة زيارة قبور الأنبياء والأئمّة^، والحضور عندها وتعاهدها علامة فارقة في فكر شيعة أهل البيت^ وسلوكهم وممارساتهم، ولا سيّما زيارة ضريح الإمام الحسين× في كربلاء المقدّسة؛ إذ تتجلّى فيه هذه الحالة بأبهى صورها.

وهذا الاستنتاج في أهمّية تواجد الزائرين عند ضريح أبي عبد الله× يمكننا الخروج به لعدّة أسباب، منها:

أوّلاً: ورود كمّ هائل من الروايات عن الرسول‘ وأهل بيته^ في الحثّ والترغيب في زيارة أبي عبد الله× على كلِّ حال، وفي كلّ زمان، مع التركيز على مناسبات معيّنة وأوقات خاصّة. فعن جعفر بن محمد÷ أنّه سُئل عن زيارة الحسين× فقيل له: هل في ذلك وقت أفضل من وقت؟ فقال: «زوروه صلّى الله عليه في كلّ وقت وفي كلّ حين؛ فإنّ زيارته× خير موضوع، فمَن أكثر منها فقد استكثر من الخير، ومَن قَلّل قُلّل له، وتحرّوا بزيارتكم الأوقات الشريفة؛ فإنّ الأعمال الصالحة فيها مضاعفة، وهي أوقات مهبط الملائكة لزيارته»[2].

ثانياً: وجود بعض الروايات التي تدفع بالمؤمن لزيارة المرقد الشريف في أحلك الظروف وأشدّها، من خوف السلطان، أو من الأخطار الأُخرى، «فعن معاوية بن وهب، عن أبي عبد الله×، قال: قال لي: يا معاوية، لا تدع زيارة قبر الحسين× لخوف؛ فإنّ مَن ترك زيارته رأى من الحسرة ما يتمنّى أن قبره كان عنده، أما تُحبّ أن يرى الله شخصك وسوادك فيمَن يدعو له رسول الله‘ وعلي وفاطمة والأئمّة؟»[3].

وفي رواية أُخرى عن ابن بكير، عن أبي عبد الله×، قال: «قلت له: إنّ قلبي ينازعني إلى زيارة قبر أبيك، وإذا خرجت فقلبي وجل مشفق حتى أرجع؛ خوفاً من السلطان والسعاة وأصحاب المصالح. فقال: يابن بكير، أما تُحبّ أن يراك الله فينا خائفاً؟ أما تعلم أنّه مَن خاف لخوفنا أظلّه الله في ظلّ عرشه، وكان يحدِّثه الحسين× تحت العرش، وآمنه الله من أفزاع يوم القيامة، يفزع الناس ولا يفزع، فإن فزع وقّرته الملائكة، وسكّنت قلبه بالبشارة»[4].

ثالثاً: الثواب العظيم، والعطاء الجزيل الذي رصدته الروايات الكثيرة لمـَن قصد زيارة الإمام الحسين× وحضر عند ضريحه، وباشر ببدنه الأماكن المقدّسة.

إنّ عظم هذا الثواب والاستحباب المؤكّد ـ الذي ربّما يصل في بعض ألسنة الروايات إلى الوجوب ـ يؤشِّر بوضوح على أنّ الحضور بحدِّ ذاته له مدخلية كبيرة في تحقيق أهداف الزيارة؛ لأنّه يؤمّن الارتباط النفسي والجسدي والروحي بالإمام الحسين× بوصفه رمزاً وأُنموذجاً حيّاً يُلامس عاطفة الزائر ووجدانه.

رابعاً: وسمت بعض الروايات والبيانات الواردة عن أئمّة أهل البيت^ التخلّفَ عن زيارة الإمام الحسين× والكون عند مرقده المطهّر بأنّه من الجفاء، والترك لحقّ رسول الله‘، والعقوق له وأهل بيته^، فعن عبد الرحمن بن كثير، قال: قال أبو عبدالله×: «لو أنّ أحدكم حجّ دهره ثمّ لم يزر الحسين بن علي‘ لكان تاركاً حقّاً من حقوق رسول الله‘؛ لأنّ حقّ الحسين فريضة من الله تعالى واجبة على كلِّ مسلم»[5].

وعن الفضيل بن يسار، قال: قال أبو عبدالله×: «ما أجفاكم ـ يا فضيل ـ لا تزورون الحسين! أما علمت  أنّ أربعة آلاف ملك شعثاً غبراً يبكونه إلى يوم القيامة؟»[6].

وفي رواية أُخرى عن سليمان بن خالد، قال: سمعت أبا عبدالله×، يقول: «عجباً لأقوام يزعمون أنّهم شيعة لنا! يقولون: إنّ أحدهم يمرّ به دهره لا يأتي قبر الحسين× جفاءً منه وتهاوناً وعجزاً وكسلاً! أما والله لو يعلم ما فيه من الفضل ما تهاون ولا كسل. قلت: وما فيه من الفضل؟ قال: فضل وخير كثير، أمّا أوّل ما يُصيبه أن يغفر له ما مضى من ذنوبه، ويُقال له: استأنف العمل»[7].

خامساً: ما ورد في الروايات من تفاصيل كثيرة حول البرنامج العملي والتطبيقي والممارسات الجزئية في أدقّ التفاصيل لهذه الزيارة عند الضريح الشريف، التي تبدأ مع الزائر من بيته ـ ومن عقده لنيّة الزيارة والخروج ماشياً متحمِّلاً المشاقّ والتعب، أو راكباً كذلك ـ حتى الوصول، فتبدأ حينئذٍ التعليمات والتوجيهات، من تهيئة النفس لهذه الشعيرة المهمّة، واستشعار أهمّية المزور وصفاته ومقامه، وما حلّ به وبأهل بيته من مصائب ومظالم، فيشرع الزائر بالاغتسال ـ مثلاً ـ والتطهّر ولبس الثياب المناسبة، والدخول وطلب الاستئذان، والوقوف في أماكن خاصّة مع الذكر والدعاء، ولمس القبر  ولثمه، والصلاة عنده، وغير ذلك من الأُمور التي ذُكرت في آداب الزيارة، وبعض نصوص الزيارات التي تُعلّم الزائر كيف يتصرّف ويتحرّك، وماذا يقول.

فما تقدّم ذكره ـ وغيره ـ يؤشِّر إلى حقيقة مهمّة، هي أنّ الزيارة بوصفها إحدى الأدوات المساهمة في فهم القضية الحسينية واستيعاب مبادئها، لا يمكنها أن تؤدّي دورها بصورة فعّالة من دون حصول الارتباط الوجداني والتفاعل النفسي للزائر مع الإمام الحسين× المتأتّي من انتقال الزائر بجسده إلى حيث ضريح الإمام الحسين×، وعندها تنفعل نفسه مع أحداث النهضة وتفاصيلها، وهو يشاهد ويتحسّس، فيحظى بالتغذية الروحية والعاطفية مع الغذاء النظري من التوجيهات العقدية والفكرية والإرشادات الوعظية وغيرها الحافلة بها نصوص زيارات الإمام الحسين×، فيعود الزائر من هذه الرحلة مُعبّأً بجرعة من الإيمان والصفاء الروحي والسموّ النفسي، لا يمكن أن يحصل عليها وهو جالس في بيته يتلو نصوص الزيارة.

إنّ هذه الثمرة العظيمة ما كانت لتُقطف لولا تمسّكنا بنهج أهل البيت^، وعلومهم المستقاة من منبع الوحي الذي يعرِف ـ بلا شكّ ـ خبايا طبيعة هذا الإنسان ثنائي التركيب؛ بحيث إذا أهمل جانباً من جوانبه لم تأتِ النتائج كما ينبغي، الأمر الذي جنّبنا الوقوع في مثل هذه الأخطاء.

نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المتمسّكين بعُرى أهل البيت^ والسائرين في ركبهم، إنّه سميع الدعاء، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

 



[1] ق: الآية 16.

[2][2] ابن طاووس، علي بن موسى (ت664هـ)، إقبال الأعمال، تحقيق: جواد القيّومي الأصفهاني، الناشر: مكتب الإعلام الإسلامي، قم ـ إيران، الطبعة الأُولى، 1414هـ: ج1، ص46.

 

[3] ابن المشهدي، محمد بن جعفر(المتوفى في ق6هـ)، المزار،  تحقيق: جواد القيّومي الأصفهاني، الناشر: القيّوم، قم ـ إيران، الطبعة الأُولى، 1419هـ: ص336.

 

[4] ابن قولويه، جعفر بن محمد (ت367هـ)، كامل الزيارات، تحقيق: الشيخ جواد القيّومي الناشر: مؤسّسة نشـر الفقاهة، الطبعة الأُولى، 1417هـ: ص243.

 

[5] المصدر السابق: ص238.

 

[6] المصدر السابق: ص175.

 

[7] المصدر السابق: ص275.